بيرام ولد اعبيد يكتب مقالا ينتقد فيه نظام العسكر و يثمن خطاب انبيكت لحواش ضد القبلية

سبت, 15/11/2025 - 16:04

من أجل إعادة تأسيس موريتانيا: القطيعة مع هيمنة نسخة النظام القبلي المتخلف الفاسد و ردود الفعل الإثنية

 

 بِيرام ولد الداه ولد اعبيد
 نائب في الجمعية الوطنية الموريتانية

 

منذ الانقلاب العسكري الأول، سنة 1978، تمكنت نخبة الضباط الساميين من إعادة تشكيل الدولة الفتية، وتكييفها مع متطلبات القبيلة والإثنية بوصفهما مصدرَين ضمنيين للشرعية. صحيح أنهم لم يعلنوا يومًا هذا التحوّل، لكن الموريتانيين كانوا يعيشونه في الخفاء تحت وطأة الخجل. فقد تمّ اقتحام البنية السياسية والإدارية، رغم مظهرها المركزي، من طرف قوى التفكك، فجرى تجريدها من ادعائها نهج التغيير و القسط.
وبدل أن تكون الدولة حكمًا حريصًا على حفظ المصلحة العامة، انطلاقًا من العاصمة، حيث يفترض أن تتدفق السلطة العادلة نحو باقي أنحاء البلاد، حوّلها العسكريون إلى ساحة صراع بين شهوات بدائية، لا تُستخدم فيها القوة المسلحة إلا لضبط دورة “كلها و حيمورتو” على كرسي قمة السلطة.
إن تنظيم المنظومة لم يكن وليد الصدفة، رغم عدم تبنّيه في شكل ميثاق أو مرجع نظري. فهو، قبل أن يكون أيديولوجيًا، كان تجاريًا ومصلحيًا، يقوم على منطق الأمر الواقع، وينتج منذ عقود، دون انقطاع، توزيع الامتيازات المادية والرمزية تبعًا لسطوة كل “جماعة”، وذلك على حساب المساواة والاستحقاق والكفاءة. إنها، في جوهرها، عملية افتراس تُنفَّذ خلف واجهة إدارة ترفع شعار الجمهورية بينما تخفي ممارسة قبلية عمودية تفرز الامتياز والمحسوبية والغش لصالح زبونية متجانسة ثقافيًا.
لم يعد السؤال المطروح هو ما إذا كانت الدولة الموريتانية بنية إثنو-قبلية ذات نزعة مافيوية، بل أصبح السؤال: كيف الخروج من نظام الانحراف المموَّه هذا، من أجل تصور وإعادة بناء بديل قائم على المعايير الكونية للفضيلة؟

 

أولًا: البنية الواقعية للمحسوبية… الواجهة الأخرى للتمييز

منذ نهاية السبعينيات، فُرض تقاسم السلطة وفق المنطق المذكور آنفًا، وأصبح قاعدة لا تُناقش. وقد كرست الحكومات المتعاقبة هذا التوزيع غير العادل: بين 23 و25 وزيرًا من مكوّن البيظان، ووزير واحد من السوننكي، و3 إلى 4 من الهالبولار والحرّاطين. لكن هؤلاء الأخيرين يُمنحون ـ غالبًا ـ منصب الوزير الأول لتجميل صورة البلاد أو نفي سمعتها المرتبطة بالاستعباد.
أمّا الولوف، رغم كونهم مكوّنًا معترفًا به، والبامبارا المهمَّشون، فبقاؤهم مرهون بمصادفات الحظ التي قد تطالهم بالانعكاس فقط.
ينهش الاختلال الإدارة والقضاء والتعليم والمؤسسات العمومية والجمارك والضرائب والدبلوماسية والجيش والشرطة والدين الرسمي. فالتعيينات فيها تُدار بمنطق الدوائر الزبونية، لا بمعايير المنفعة العامة. وبسبب اختلال ميزان القوة المالي، لم يسلم حتى المشهد الانتخابي من الإقصاء. وتشكيلة البرلمان خير دليل على ذلك. فنوابه يمثلون انتماءاتهم الخاصة ومصالحها، ويصلون عبر شراء الذمم، وقبل كل شيء، عبر التزوير.
وهكذا تحولت الدولة إلى اتحاد شبكات زبونية شرهة. وتتأسس علاقة هذه الشبكات على تنازلات دورية للقبيلة، بعيدًا عن المنطق العام. صحيح أن بعض الترقيات تُمنح أحيانًا لأشخاص من الفئات المهمَّشة، لكن دون أن يكون ذلك قائمًا على الكفاءة، بل فقط لإظهار “شكل من الشمولية”. إن هذا الزيف المقنع يغذي هندسة الإنكار غير المباشر في موريتانيا.

 

ثانيًا: الاتجار بالمواقع وصعود الرداءة وسقوط مبدأ المساءلة

لقد أضعفت المحاصصة القبلية-الإثنية الوظيفةَ العمومية وأفسدت أهدافها بشكل يكاد يكون لا رجعة فيه. فمنذ منتصف الثمانينيات، أضحى أكثر من 70% من كبار المسؤولين والمستشارين والمديرين العامين لا ينحدرون من أسلاك الإدارة، وقليل منهم وصل عبر المنافسة.
إن خصخصة الدولة فتحت الطريق أمام صعود المتواضعين إلى قمّة سلم القيم. ومنحت “جماعة المتوسطة” القوةَ والمالَ ومفاتيح الخزائن، فكان رأس المال الوطني ابنًا لسلسلة من الانقلابات.
أما رؤساء مجالس الإدارة ـ رغم وجود قانون معطّل يدّعي وضع حد لهذه الظاهرة ـ فيحصلون على مواقعهم فقط لإعادة تدوير عناصر المنظومة الذين خرجوا من الخدمة مؤقتًا أو دائمًا. لا شيء يندثر هنا، بل كل شيء يُعاد تدويره.
ومن ثمّ، نفهم امتناع هذا الجهاز عن معاقبة اختلاس المال العام. فالضغط القبلي والعائلي يكفل للجناة الإفلات من العقاب و«حصانةً» بأثر رجعي. وقد ينتهي تقرير محكمة الحسابات لعام 2025 ـ رغم خطورته ـ إلى مجرد تحصيل حاصل.
هذا الانحراف يغلق الباب أمام أي إصلاح عميق، إلا إذا قبل النظام بالانتحار من أجل الصالح العام؛ وهو احتمال نادر في تاريخ السياسة.

 

ثالثًا: انتكاسات الخطاب وعطب الوعود التي تروّج نفسها

عبّر رئيس الجمهورية، محمد ولد الغزواني، مرارًا عن نيته إصلاح المجتمع وإعادة الحق لأهله. وقد أثارت خطاباته في وادان، والنعمة، وجيول آمالًا في انطلاقة جديدة يعاد فيها الاعتبار للأخلاق. غير أن هذه الوعود بقيت مجرد شعارات موسمية بلا تقييم ولا رؤية ولا خطة.
أما وكالة “تآزر”، التي أُنشئت عام 2019 لمحاربة الفقر والإقصاء، فقد بقي أثرها محدودًا وفولكلوريًا، يُروّج له فقط عبر مواقع التواصل.
وأتى خطاب الرئيس الأخير في انبيكت لحواش، بداية نوفمبر 2025، ليمنع مشاركة الموظفين في النشاط القبلي. وهو كلام وجيه، لكن المفارقة أن جولة الرئيس نفسها أُديرت بشكل قبلي، وبمال عام، وبإشراف موظفي الدولة الذين تفاخروا بذلك علنًا.
الرئيس بحاجة إلى كلام أقل وعمل أكثر؛ فإن فعل ذلك، ستتكفل الآراء ـ بما فيها المعارضة ـ بالدفاع عنه.

 

رابعًا: إصلاح الدولة

يتطلب الإصلاح قطيعة جذرية مع الانحرافات وعودة صادقة إلى ميزان العدل. ويجب أن يقوم على الإجراءات التالية:
-إلغاء جميع الحصص والمحاصصات القبلية والإثنية والمجتمعية في اختيار موظفي الدولة، واعتماد معايير الكفاءة والنزاهة والخبرة.
-إلغاء جميع التعيينات خارج أسلاك الوظيفة العمومية، وبأثر رجعي. وإجراء تدقيق شامل لتعيينات العقدين الماضيين، لتعديل الخلل وتقليص النفقات وتصحيح المظالم.
-المصادقة الفورية على مشروع المرسوم المتعلق بموظفي الوظيفة العمومية والمعلّق منذ سنوات داخل الوزارة المعنية.
-تحويل محاربة الفساد والتزوير إلى إجراءات عملية: متابعة قضائية، وتدقيقات، ونشر تقارير محكمة الحسابات والمفتشية العامة للدولة بشفافية.

خاتمة
تقف موريتانيا اليوم على مفترق طرق. ويمتلك الرئيس، وقد بلغ منتصف مأموريته الثانية والأخيرة،  كل الأوراق. يمكنه أن يدخل التاريخ إذا أعاد الاعتبار للدولة عبر ترسيخ الأخلاق وحسن اختيار القائمين على الإصلاح. وإن قرر مواجهة الفوضى والامتيازات المتوارثة والمحسوبية، فسوف يستأنف ورشة الجمهورية من حيث توقفت سنة 1978.
نريد أن نؤمن بهذا النهوض، ونساهم فيه، على أمل أن تولد موريتانيا جديدة: دولة عدل وجدارات ووحدة، تسود فيها المساواة، بمنأى عن الفوارق الاجتماعية الموروثة.

 

 

بروكسل، مملكة بلجيكا، 14 نوفمبر 2025

تصفح أيضا...