الوالي السابق صال صيدو يكتب : إطار الحوار الوطني من خلال إشكالية التماسك الوطني

ثلاثاء, 08/07/2025 - 21:15

 

 

إن الأزمات المركَبة والتهديدات التي تواجه الأمن الوطني تجعل فرض التماسك الوطني يفرض نفسه كاستجابة مستعجلة.

ومن خلال تجربتي، كان هناك دائمًا ثلة تراقب وتحرس "معبد التماسك" وتواصل الدفاع عنه ممَا يضطرَها أحيانًا إلى الوقوف في وجه تصرفات بعض أصحاب السلطة العامة وحتي ضد بعض المؤسسات وظلَ هؤلاء الفاعلون أوفياء لمهمتهم.

ولتفادي إثارة الجدل أو الخوض في متاهات سيل من الأمور يعسر التحكَم فيها، فإن بعض المجموعات التقليدية قد طوَرت، أكثر من غيرها، آليات فعالة لتحقيق التماسك.

ولا يتعلق الأمر باختيارات تبنَتها هذه المجموعات بل بمسارات تشكلت وفقًا لأنماط الحياة التي تميز كل مكوَن اجتماعي، سواء كانوا بدوًا، أو شبه بدو، أو مستقرين.

ومن النموذج الفردي إلى النموذج الجماعي، فإن العلاقة مع التماسك ترتبط بمدى استيعاب القيم الجماعية من المنظور الاجتماعي.

ويختلف مستوى الميل إلى التماسك من مجموعة لأخرى. فاللغات والثقافات والثراء الناتج عن تعدد التراث يساهم في التماسك الوطني، الذي يعد ركيزة أساسية لهوية مشتركة. كما أنه يعزز شخصية حضارية متميزة، تؤسس لتوازنات دائمة، مثلها مثل الحفاظ على التراث الموثق والمعترف به.

كل أمة لها خصوصيتها.

فالأمة، كصيغة من صيغ التنظيم السياسي، تجسد الرغبة في صون الماضي داخل حاضر مشترك، يُسقط في خيال جماعي من الأمل والمستقبل. أما الديمقراطية، فهي تقوم على احترام المؤسسات ووجود نظام عادل لإعادة توزيع الثروات الناتجة عن التنمية الوطنية.

ويجب أن تحظى الحوكمة الاقتصادية بنفس أهمية الحوكمة السياسية في إطار تحسين الأنظمة الديمقراطية.

إن مطلب الحوكمة الاقتصادية هو رهان لتعزيز واستدامة التماسك داخل المجتمعات الديمقراطية.

فعلى سبيل المثال، البطالة الواسعة التي تمس الشباب تُضعف التماسك، ويصبح العمل وسيلة للاندماج.

أما سياسة الإعانات في سياق الفساد، فهي تُعد انتقاصًا من الكرامة وقد تزيد من حدة الانقسامات.

فلكي يكون المرء مواطنًا، لا بد أن يحصل على الحد الأدنى من موارد العيش الكريم.

وتُعتبر كل من المدرسة والخدمة العسكرية أو التطوعية من الوسائل المعترف بها للاندماج الوطني.

فالتماسك هو نقيض الإقصاء، والتهميش، والوصم غير أنه لا يعني الانصهار، بل يفترض احترام الخصوصيات.

وتختلف قدرة التسامح من فئة اجتماعية إلى أخرى.

وقد اعتمدت السلطات بنية قيمية للسياسات العمومية تهدف إلى تعزيز التماسك الوطني من خلال الإنصاف.

فالمؤسسات القوية هي التي تحمي الفئات الضعيفة.

والمجال السياسي هو- أو ينبغي أن يكون- ذلك المجال الذي يسمو فوق المصالح الفردية باسم المصلحة العامة.

إنه الفضاء الذي تُعلن فيه الإرادة الجماعية.

لقد أضعف نكوث الدولة - في أكثر من مناسبة- التماسك الوطني الذي ما يزال قيد التشييد وذلك من خلال أحداث خطيرة.

وما زال صمود البنية الاجتماعية يحفظ أمتنا حتى الآن.

لكننا نعلم أيضًا أن القيم والمعايير الاجتماعية قد تضعف، وتضعف معها القدرة الجماعية على الصمود.

وفي المستقبل، ينبغي أن تثري القصص الملهمة لثقافة التماسك.

فهناك شهادات عديدة لأولئك الذين أظهروا الرحمة والإنسانية أثناء القمع الرسمي.

ولا بد أن يصبح السرد المتعلق بالماضي الإنساني أقل تأنـيبًا وأكثر واقعية إذا أردنا المضي قدمًا.

فهل ينبغي أن نستكشف إذًا بروتوكولات العدالة الانتقالية؟ لقد أثبتت فاعليتها في أماكن أخرى، بدرجات متفاوتة.

لكن يبقى السؤال الجوهري: هل مجتمعنا مستعد لخوض مثل هذه التجربة، التي قد تكون تطهيرية ومؤلمة في آن؟

أقترح أن نلتمس أجوبة الكرامة، والجبر، والغفران من الآليات التقليدية نفسها التي أثبتت فعاليتها بالأمس كما اليوم.

فالعدالة العرفية لدينا ما تزال تحل غالبية النزاعات بمختلف أنواعها.

لا يتعلق الأمر هنا بالخلاصة، بل برسم مسارات للتفكير.

ما يجب أن يسمح به هذا الحوار السياسي هو إبراز خصوصية موريتانيا: كيان متعدد في طور التكوين.

علينا أن نتحرر من النماذج الطوباوية المفروضة أحيانًا من جماعات أيديولوجية ضيقة ومختلفة الشارب استولت على سدة الحكم ، دون أن يمنحها الاقتراع الشعبي شرعية.

فهذه النخب مألوفة بممرات السلطة، وغالبًا ما تؤثر سلبًا على قواعد الحكم الرشيد ومبادئه.

هذا جوهر هذا الحوار ينبغي أن يتمثَل في إعادة التأكيد على مركزية حوكمة المؤسسات الشرعية والقانونية.

ويقتضي ذلك أيضًا التفكير في تأسيس تحالف جمعويللمواطنة على غرار مؤتمر ألاك، تمهيدًا – في آخر المطاف – لدستور توافقي وشرعي، يتبنَاه الشعب الموريتاني برمته.

ويكون الاستفتاء الشعبي الخطوة النهائية لمسار تشاوري يعكس تنوعنا الوطني.

إن التماسك مفهوم شامل: يشير إلى التضامن والوحدة داخل المجتمع. إنه قدرة الأفراد والجماعات على العيش المشترك، وتبادل القيم، والتفاعل الإيجابي بروح من الاحترام والتضامن كما أنه ركيزة الصمود في مواجهة الأزمات.

فهو ذلك المكون اللامحسوس، لكنه الجوهري، الذي يعزز الإحساس بالمصير المشترك.

فالدولة، إن لم تنل ثقة مواطنيها، لن تصمد أمام أول صدمة خارجية كبرى.

تصفح أيضا...