ذكريات أليمة على مقطع مميت! / محمد الأمين ولد الفاظل

خميس, 05/06/2025 - 16:09

 

في الطريق إلى موقع حادث الكلم 110، مررتُ رفقة عدد من شباب الحملة بنقاط سوداء عدة على هذا المقطع المئوي الأول من طريق الأمل، ذكرتني كل نقطة منها بحوادث سير مميتة، ففي هذه النقطة السوداء بالذات حدثت فاجعة أليمة كنّا في الحملة شهودا عليها، وفي هذه النقطة السوداء الثانية حدثت فاجعة أليمة أخرى وثقناها بالصوت والصورة، وهنا عند الوصول إلى المكان الذي اصطدمت فيه ـ أو عليه ـ شاحنتان وحافلة، فتوفي ثلاثة أشخاص، يكاد حصى المكان يصرخ في وجهي قائلا: هنا بالضبط، وقبل عقدين من تأسيس حملتكم التوعوية، توفي شخصان ستنظمون لهما فيما بعد نشاطا تأبينيا لتخليد ذكرى رحيلهما.

 

 عندما تسافر على طريق الأمل، وتبدأ في استعادة ذكرياتك على هذا الطريق الحيوي، فإن ذكرى الفاجعة قد تنسيك ذكرى فاجعة أخرى ماكنتَ تعتقد أنك ستنساها أبدا، وعلى هذا الطريق يمكن أن يقع الحادث على الحادث، كما يقع الحافر على الحافر، وعلى أي مقطع منه، وفي أية لحظة، يمكن أن تتبعثر الحروف المشكلة لاسم الطريق بشكل مفاجئ، فيتحول الأمل إلى الألم في نفوس الضحايا وذويهم، ولأن شريط ذكريات الفواجع طويل جدا بطول هذا الطريق الحيوي الذي يمتد لأكثر من ألف كلم، ولأنه يستحيل على مثلي ممن يتابع باستمرار حرب الشوارع الدائرة على هذا الطريق الحيوي، أن يجمع كل ذكرياته الأليمة، في مقال حزين واحد، فقد ارتأيت أن أكتفي بسرد بعض الذكريات الأليمة دون غيرها، مكتفيا في هذا المقام الحزين بمقطع قصير من طريق الأمل، لا يتجاوز 40 كلم، أي 20 كلم قبل المائة كيلومتر الأولى من هذا الطريق، و20 كلم بعدها. سأكتفي بسرد بعض ذكرياتي الأليمة على مقطع لا يتجاوز 40 كلم، ولا أظن القارئ سيصدق بأن كل هذا العدد من الموتى، وكل هذا الكم الكبير من الأحزان والآلام والدماء يمكن أن يمتصه مقطع واحد من طريق الأمل، لا يتجاوز طوله 40 كلم فقط.

 

حمار يتسبب في حادث سير أليم ثم يختفي!

 

في حدود الساعة العاشرة من مساء السبت (ليلة الأحد 01 يونيو 2025)، وعلى بعد 110 كلم من نواكشوط على طريق الأمل، حاول سائق حافلة متجهة إلى نواكشوط ـ وحسب ما جمعنا من شهادات ـ أن يتفادى حمارا على الطريق، فاصطدم بشاحنة قادمة من نواكشوط، لم يُصَب الحمار، ولم يُشاهد أهل القرية بعد وقوع الحادث حمارا في موقع الفاجعة حسب ما أكدوا لنا، ولكنهم شاهدوا ـ كما شاهدنا من بعدهم ـ حادث سير أليم وفظيع، ناتج عن اصطدام حافلة متجهة إلى نواكشوط  بشاحنة قادمة، ثم بعد ذلك بقليل، وحتى يكتمل المشهد الكارثي، ستصطدم شاحنة ثانية قادمة أيضا من نواكشوط بحطام الحافلة والشاحنة، ربما بسبب سرعة الحافلة الثانية حسب بعض الروايات، وربما بسبب بعض الأضواء الكاشفة التي حجبت عن سائقها رؤية الحافلة والشاحنة اللتين تعرضتا لحادث قبل قليل، حسب رواية ثانية.

 

المهم، أننا في المحصلة النهائية، كنا أمام حادث سير فظيع، وفاجعة أليمة، وكان لابد أن تكون هناك فاجعة أليمة، عندما تصطدم شاحنتان محملتان ببضائع، بحافلة تحمل ثلاثة أشخاص وبعض المواشي.

 

يقول شاهد عيان، وهو أول من وصل من القرية إلى موقع الحادث، بأنه عندما سمع صوت تصادم قويا نتيجة للحادث الأول، اتجه فورا إلى عين المكان، ولكنه، وقبل أن يصل إلى مكان الحادث، سمع صوت التصادم الثاني الناتج عن اصطدام الشاحنة الثانية بالشاحنة الأولى والحافلة، ويقول هذا الشاهد إنه لما وصل إلى مكان الحادث، نسي وجود شاحنة ثانية، واعتقد لأول وهلة، أن الحادث وقع بين حافلة وشاحنة واحدة فقط.

 

لقد كان الشاهد معذورا في ذلك، فبعد وصولنا نحن لمكان الحادث في ضحى اليوم الموالي اعتقدنا في بادئ الأمر أن الحادث ناتج عن تصادم شاحنة وحافلة، ولم نكن نعتقد أن الأمر يتعلق بشاحنتين، نظرا لقوة التصادم بين الشاحنتين، وهو ما نتج عنه تلاحم شديد بينهما، لدرجة قد يعتقد من يراهما دون تأمل في التفاصيل بأنهما شاحنة واحدة.

 

لم يتسبب هذا الحادث رغم بشاعته في الموت الفوري للركاب الثلاثة الذين تكدست عليهم الحافلة، بسبب سقوط إحدى الشاحنتين عليها، بل ظلت الأصوات تأتي من داخل الحافلة مستغيثة، ولكن لم يكن هناك من يستطيع أن يستجيب لنداءات الاستغاثة تلك، نظرا لغياب وسائل وتجهيزات قادرة على رفع الشاحنة، وقطع حديد الحافلة المتكدس على الضحايا لإخراجهم، وهنا تظهر من جديد الحاجة الماسة لوجود فرق إنقاذ مجهزة بأحدث وسائل الإنقاذ على المقاطع الأكثر خطورة، لإخراج الضحايا العالقين في السيارات في الوقت المناسب، إن احتاجوا إلى ذلك، فمن المعروف في مثل هذه الحالات، أن الحياة والموت، قد لا تفصل بينهما أكثر من دقيقة واحدة، فالتأخر لدقيقة واحدة قد يتسبب في وفاة مصاب، وكسب دقيقة واحدة في توفير إسعاف المصابين، قد ينقذ بمشيئة الله نفسا بشرية من موت محقق.

 

وللفت الانتباه إلى أهمية اقتناء هذه التجهيزات، فقد سلمنا في الحملة، وبدعم من بعض الموريتانيين في الخارج، مجموعة من تجهيزات الإنقاذ، تم شراؤها من طرف بعض أفراد جالياتنا في الخارج، من خلال المشاركة في مزاد علني نظمه مركز للحماية المدني في إحدى المدن الفرنسية.

 

سلمنا تلك التجهيزات لمندوبية الحماية المدنية، والتي كان يفترض حسب مذكرة التفاهم التي وقعنا معهم أن تطلعنا مستقبلا على استخدام تلك الأجهزة في عمليات الإنقاذ، ولكن ذلك لم يحدث، وكان عهدنا بالمندوبية في يوم الاثنين 19 دجمبر 2022 عندما سلمناها تلك التجهيزات.

 

بث مباشر من موقع حادث سير أليم

 

في حدود الساعة الثامنة من صبيحة يوم الجمعة الموافق 19 يناير 2024، وغير بعيد من قرية الغشوات، اصطدمت حافلة صغيرة بشاحنة، وحسب المصادر الأولية، فإن الحادث كان بسبب نوم أحد السائقين والسرعة المفرطة للسائق الآخر.

 

الحادث تسبب في وفاة 5 أشخاص بشكل فوري، وإصابة آخرين، وكنتُ من أوائل الذين وصلوا إلى موقع الحادث، وقد أجريت من موقعه بثا مباشرا، ولكن دون أن أظهر صورا من الضحايا، ودون أن اقترب كذلك من موقع الحادث.

 

آخر لحظات في حياة داعية

 

على بعد سبعة كيلومترات من مكان فاجعة الكلم 110، وفي يوم الثلاثاء (ليلة الأربعاء) الموافق 17 أكتوبر 2023 اصطدمت سيارة تويوتا هيليكس بشاحنة كانت متعطلة عند الكلم 102، لم تضع أي إشارة تحذيرية، وتسبب هذا الحادث الأليم في وفاة الداعية المعروف إنجيه ولد زروق، وأحد أبنائه، وثلاثة من تلاميذه وأقاربه.

 

الحادث وقع قرب سيارة الإسعاف المرابطة عند الكلم 100، وقد وصل المسعفون بعد ثلاث دقائق أو أربع من وقوع الحادث، ولكنهم وجدوا ركاب السيارة الخمسة قد توفوا بشكل فوري بسبب قوة التصادم، الناتج عن وجود شاحنة متعطلة على الطريق لا تضع إشارات تحذيرية،  وربما تكون السرعة المفرطة للسيارة الأخرى قد زادت من قوة ذلك التصادم.

 

هل نحن أمام هجوم صاروخي؟

 

في صبيحة يوم الأربعاء 17 مارس 2021، وعند الكلم 82، حدثت فاجعة أليمة أدت إلى وفاة 13 شخصا في حادث سير واحد، وكانت الفاجعة هذه المرة نتيجة لتصادم سيارتي نقل من نوع رينو.

 

الحادث وقع على مقطع من الطريق حديث الترميم، شديد الاستواء، لا منعرج فيه ولا منحدر ولا حفر، مما يعني أن الحادث  كان بسبب أخطاء بشرية، كان من أهمها السرعة المفرطة والنعاس.

 

عندما وصلنا إلى مكان الحادث خُيِّل إلينا أن السيارتين قد تعرضتا لقصف صاروخي، فالمشهد كان فظيعا، فماكينة إحدى السيارات وجدناها قد انفصلت عن السيارة، وتدحرجت بعيدا، وبشكل سريع حسب ما تركت من آثار على الأرض.

 

وقد كان هذا الحادث الأليم من بين الحوادث الأثقل حصيلة التي زرناها في الحملة، فقد تسبب في وفاة 13 شخصا على الأقل، ومن شاهد آثار هذا الحادث لن يتفاجأ من تلك الحصيلة الثقيلة.

رحيل أسرة شابة في حادث سير أليم

 

في ضحى يوم الجمعة الموافق 06 يوليو 2018، كان المهندس الشاب براهام أحمد خليفة يقود سيارته، وكانت برفقته زوجته الشابة شيخة بنت أحمد معلوم، وابنتهما الرضيعة، وعند الوصول إلى الكلم 95 حدثت الفاجعة، بسقوط شاحنة كبيرة على سيارتهما الصغيرة.

 

كان المهندس وزوجته يضعان حزام الأمان، وكانت زوجته في ثياب محتشمة لم يظهر منها إلا كفيها، وكانت تلوح بيدها طالبة النجدة، حسب شهادات الأهالي في قرية الغشوات، وقد احتاجت عملية إزاحة الشاحنة وإخراج الضحايا من السيارة الصغيرة أكثر من أربع ساعات، وهو ما يؤكد مرة أخرى ضرورة وجود فرق إنقاذ مجهزة بمعدات ثقيلة عند المقاطع الأكثر خطورة للتدخل السريع والفعال في مثل هذا النوع من الحوادث.

 

لقد قيل حينها أن سبب الحادث كان حفرة، حاول صاحب الشاحنة تفاديها، فكانت الكارثة، وقد قمنا في الحملة بردم تلك الحفرة للفت انتباه السلطات إلى تهالك الطريق، وبالفعل فقد كان مقطعُ (نواكشوط  ـ بوتلميت) مليئا بالحفر في تلك الفترة.

 

من هنا بدأتُ أفكر في عمل ما للحد من حوادث السير

 

بعد المشاركة في نشاط لمبادرة "كنتُ طالبا في ثانوية لعيون" نظمناه في ثانوية لعيون، وفي طريق العودة إلى العاصمة نواكشوط، وعلى بعد 120 كلم منها، وفي حدود الساعة الثامنة وعشرين دقيقة من صبيحة يوم الخميس الموافق 23 أكتوبر 2014 وقع حادث سير أليم بسبب تصادم شاحنة صهريج مليئة بالبنزين وسيارة من نوع رينو، وكان من نتائج هذا الحادث أن توفي على الفور الشابان اللذان كانا في السيارة الصغيرة، بينما أصيب سائق الشاحنة ورفيقه بجروح طفيفة..

 

كنتُ من أوائل من وصلوا إلى مكان وقوع الحادث، فوجدت الشابين قد توفيا على الفور، وقد قال لي سائق الشاحنة بأن سائق السيارة الصغيرة كان نائما، وأن الحادث كان بسبب نومه، وأنه حاول وبكل الوسائل الممكنة أن يتفادى الاصطدام بالسيارة الصغيرة، ولكنه لم يتمكن من ذلك نتيجة لنوم سائقها.

 

ربما يكون المشهد المؤلم لضحايا هذا الحادث، ولضحايا حوادث سير أخرى ستقع فيما بعد، قد جعلاني أفكر في القيام بأي جهد من شأنه أن يَحُدَّ من حوادث السير على طرقنا، وسأجد فيما بعد بعض الأصدقاء يحملون الفكرة نفسها، وبعد لقاءات ونقاشات قررنا ـ وكنا ستة في البداية ـ أن نطلق حملة "معا للحد من حوادث السير"، وكان أول نشاط للحملة في يوم 07 أغسطس 2016، وتمثل ذلك النشاط في ترميم حفرة عند الكلم 29، وكان ذلك النشاط من أجل لفت انتباه السلطات إلى تهالك المقطع الرابط بين (نواكشوط ـ  وبوتلميت)، فقد كان حينها مليئا بالحفر.

 

عودة إلى الكلم 110 مرة أخرى

 

في مساء الخميس (ليلة الجمعة) الموافق 15 فبراير 1996، وعند الكلم 110، وقع حادث سير أليم توفي فيه نقيب المحامين والشيخ السابق محمد شين محمادو، والمساعد الأول الجمركي هنون ولد أعمر، وكان السبب المباشر للحادث ألسنة رملية على الطريق.

 

وقع هذا الحادث الأليم قبل تأسيس الحملة بأكثر من عقدين من الزمن، ولكننا قررنا في الحملة أن نخلد ذكرى هذا الحادث الأليم في إطار برنامجنا التأبيني والتوعوي، والذي أطلقناه تحت شعار "لنخلد ذكراهم بالمزيد من التوعية".

 

كان أول نشاط تأبيني وتوعوي تنظمه الحملة، في يوم 03 دجمبر 2023، وبحضور عائلتي وأصدقاء الراحليْن محمد شين وهنون، وكان الهدف من هذه الأنشطة التأبينية والتوعوية إشراك ذوي الضحايا، والقطاعات التي سيتم تأبين ضحاياها في التوعية في مجال السلامة الطرقية، وذلك من باب تحمل المسؤولية الاجتماعية اتجاه ضحايا كل قطاع.

 

وتبقى جملة من النقاط السريعة:

 

1 ـ نسأل الله تعالى أن يتغمد ضحايا حوادث السير الذين ذكرت أسماؤهم في هذا المقال الحزين، وكل ضحايا حوادث السير ممن لم يذكروا فيه، بواسع رحمته، وأن يسكنهم فسيح جناته؛

2 ـ إن حوادث السير المذكورة هنا ليست هي كل الحوادث التي وقعت بعد إطلاق الحملة في العام 2016 على هذا المقطع الممتد لأربعين كلم من طريق الأمل، وإنما تمثل فقط عددا قليلا من الحوادث التي تمكنت الحملة بوسائلها المحدودة أن تنظم زيارات ميدانية لمواقعها؛

3 ـ لم يحدث إطلاقا أن صادفنا خلال زيارتنا لكل مواقع هذه الحوادث موظفا واحدا من وزارة التجهيز والنقل، أو من أي إدارة معنية بالسلامة الطرقية، وهو يُعاينُ موقع حادث سير؛

4 ـ تعتمد الحملة في أنشطتها على إرادة شبابها وتحمسهم، وعلى ما يوفره بعض أعضائها من مساهمات مادية متواضعة؛

5 ـ لم تمتلك الحملة خلال السنوات التسع الماضية، أي منذ تأسيسها وحتى اليوم، مقرا خاصا بها حتى وإن كان من غرفة واحدة، ويتم التخطيط والتحضير لأنشطتها من خلال مجموعتها على الواتساب؛

6 ـ هذه المعلومات الأخيرة مهمة لأن هناك من يعتقد أننا نحصل على تمويلات من هنا أو هناك، فيطلب منا أن نقوم بأنشطة لا قدرة لنا على القيام بها، وعندما لا نقم بها ينتقدنا بشدة؛

7 ـ الحملة قائمة على رفض الاكتفاء بالتفرج على ما يقع من حوادث السير، دون فعل أي شيء، وهي تقوم دائما بالمتاح لها من أنشطة بفضل إرادة وحماس شبابها، أما الوسائل فهي لا تمتلكها أصلا، ولا تعتبرها - بأي حال من الأحوال -  عائقا أمام القيام بما هو متاح.

عندما تُصِرُّ على القيام بما هو متاح لك، فإنك ستجد دائما ما يمكن أن تفعله لصالح بلدك، وهذه هي قناعتنا في حملة معا للحد من حوادث السير.
صحيح أن الوسائل قد توسع من أنشطتنا في الحملة، وتزيد من فعاليتها، ولكن الصحيح أيضا، هو أن هناك الكثير من الأنشطة المفيدة التي يمكننا القيام بها دون وسائل.

حفظ الله موريتانيا..

 

محمد الأمين الفاضل

[email protected]

تصفح أيضا...