ملاحظات حول جرائم القتل بحوادث السير

اثنين, 29/12/2025 - 09:56

أولا: نطاق التجريم ومناط المسؤولية

 

تعاقب المادة 295 من القانون الجنائي كل من تسبب في القتل خطأ، إذا كان ذلك ناشئا عن الرعونة أو عدم الاحتياط أو عدم الانتباه أو الإهمال أو عدم مراعاة الأنظمة.

ولا جدال في أن حوادث السير القاتلة قد تتعدد أسبابها، فتشمل: رعونة بعض السائقين، أو عدم احتياط المجاورين للطريق، أو عدم انتباه الراجلين،

أو إهمال الجهات المكلفة بصيانة الطرق وإصلاحها، أو تقصير شركات النقل، أو ضعف المراقبة الفنية، أو الخلل في منظومة منح رخص السياقة.

وقد تتضافر هذه الأسباب جميعا في واقعة واحدة، كما قد ينفرد بعضها دون غيره.

غير أن الواقع العملي يكشف أن التحقيقات الجنائية غالبا ما تنحصر في سائق السيارة وحده، متى قدر له النجاة، دون امتداد جدي لبقية الفاعلين المحتملين، رغم أن النص الجنائي لا يحصر الخطأ في شخص بعينه.

 

ثانيا: معيار الخطأ الجنائي وتمييزه عن الحادث المحض

 

إن التحقيق الدقيق والجدي هو وحده الكفيل بتحديد ما إذا كانت الواقعة تشكل:

خطأ جنائيا يعاقب بعقوبة جزائية علاوة على الدية، أم حادثا عرضيا محضا تترتب عليه الدية دون عقوبة أخرى.

فالخطأ الموجب للعقاب لا يتحقق إلا إذا ثبت الخروج عن سلوك الشخص المتبصر اليقظ، وهو ما استقر عليه الفقه الجنائي باعتباره المعيار الموضوعي للخطأ.

وعليه، فإن: انتفاء هذا الخروج، أو ثبوت التزام المتهم بسلوك الشخص المعتاد الحريص، يؤدي إلى انتفاء الركن المعنوي للجريمة، ومن ثم سقوط المسؤولية الجنائية، باستثناء الدية التي هي حكم خاص "لمكانة القتل في النفوس".

والقول بخلاف ذلك يفرغ العقوبة من غايتها، المتمثلة في الردع والإصلاح؛ إذ لا يتصور ردع من لم يصدر عنه سلوك مخالف لما كان سيصدر عن شخص متبصر يقظ وملتزم بالقانون.

فليس كل قتل خطأ، ولا كل جرح خطأ، ناتجا بالضرورة عن رعونة أو إهمال أو عدم احتياط.

 

ثالثا: آثار القصور التحقيقي على السياسة الجنائية

 

لقد أدى هذا الكسل التحقيقي – إن جاز التعبير – إلى: معاملة أغلب حوادث السير باعتبارها جرائم خطأ معاقبا عليها تلقائيا،

وتحميل السائق المسؤولية الجنائية بمجرد تحقق النتيجة الضارة، دون بحث جدي في الأسباب الأخرى، ودون تمييز لازم بين:

الخطأ المحض أو الحادث العرضي،

والخطأ الجنائي الموصوف القائم على الرعونة أو عدم الحيطة أو مخالفة الأنظمة.

وهو ما جعل الأثر الردعي للعقوبة منعدما أو ضعيفا؛ إذ إن معاقبة من لم تتوافر في حقه عناصر الخطأ الجنائي لا تمنع تكرار الحوادث متى حضرت القوة القاهرة أو وقع الأمر الفجائي الذي لا يد للإنسان فيه، وهو أمر لا يسلم منه أحد.

أما الردع الحقيقي، فينصرف بطبيعته إلى السلوك الأرعن وغير المحتاط، لا إلى الفعل الذي وقع رغم الالتزام واليقظة.

 

والخلاصة إن العدالة الجنائية في مجال حوادث السير لا تتحقق إلا بـ:

دقة التحقيق، وشمول البحث لجميع الأسباب، والتمييز الصارم بين الخطأ الجنائي والحادث العارض، وتفعيل مبدأ شخصية المسؤولية الجنائية.

وهو ما ينسجم مع الفقه الجنائي الحديث، ويكرسه القضاء المقارن، ويحقق التوازن بين حماية الأرواح وضمان الحقوق.

تصفح أيضا...