
تتأهب موريتانيا لخوض تجربة جديدة من الحوار الوطني، حوار لا يفرضه مأزق سياسي، ولا تمليه استحقاقات انتخابية، بل ينبع من إرادة عليا لصياغة عقد وطني جامع، يعيد ترتيب العلاقات بين القوى السياسية والدولة والم، ويؤسس لمستقبل تُشارك في بنائه كل القوى الحية.
يأتي الحوار الوطني المزمع كفرصة نادرة لإطلاق مسار تشاوري ، لا يُلاحق الأزمات بل يستبقها، ولا يُدار بضغط اللحظة بل يُوجَّه بحكمة الرؤية.
منذ وصوله إلى الحكم، اختار الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أن يجعل من الحوار سلوكًا ثابتًا لا ظرفيًا، ونهجًا جامعًا لا مُجزَّأ، ينأى عن الإقصاء ويؤمن بالاحتواء. وهو ما تجلّى في خطاب سياسي متزن، دعا فيه أكثر من مرة إلى تأسيس عقد وطني تصالحي جديد ، لا يقوم على التنافس المحموم بل على التفاهم المُلزم، ولا يُبنى على الظرف الطارئ بل على المصلحة الدائمة.
لقد ظلّ الحوار في فلسفة الرئيس أداة بناء لا أداة نجاة، وآلية إنتاج لا آلية امتصاص. وهو ما يمنح الحوار اليوم طابعًا تأسيسيًا، يعلو على المناورات الآنية، ويُمهّد لتحول عميق في بنية الدولة ونمط اشتغالها.
والأهم من ذلك أن هذا الحوار سيتيح إمكانية الفرز الدقيق بين ما هو محل توافق وما هو محل تباين. فكم من خلاف أُضفي عليه طابع الصراع ، وكم من اتفاق غاب تحت غبار التجاذب! وهنا تبرز الحاجة إلى الحوار كمرآة تكشف القواسم لا الخصومات، وتُظهِر المُشتَرك .
وفي عالم يتغير بسرعة، تقف موريتانيا أمام تحديات متشابكة، أمنية واقتصادية، إقليمية وديموغرافية. وتأتي الهجرة غير النظامية في صدارة هذه التحديات، بما تمثله من ضغط على الموارد والفرص، وتهديد للتماسك الاجتماعي. وهي ظاهرة لا يمكن التعامل معها بأدوات أمنية فقط، بل تقتضي مقاربات وطنية منسجمة، تُبنى على الحوار، وتشارك فيها الدولة والمجتمع معًا.
وإذا كان التنوع الثقافي والعرقي في بلادنا مصدر ثراء حضاري، فإنه يظل بحاجة إلى صيانة دائمة عبر الحوار. فالوحدة لا تُفترض، بل تُبنى، والعدالة لا تُهدى، بل تُنتزع بالاعتراف والإنصاف. ولذلك، يظل الحوار هو السبيل الأمثل لترسيخ المواطنة الجامعة، وإحياء الثقة المتبادلة، وضمان الاستقرار في الحاضر والمستقبل.
في الختام، ليس الحوار شعارًا نرفعه، بل ثقافة نرسّخها، وآلية نُدير بها اختلافنا، ونمطًا نؤسس به تعايشنا. وإذا أحسنّا اغتنام هذه الفرصة والظروف فقد ننجح في صياغة عقد وطني، لا يلغي التعدد بل ينظمه، ولا يُقابل التنوع بالخوف بل بالثقة، ولا يدير الخلاف بالصدام بل بالتفاهم.