لماذا الحديث عن الغظفية الآن ؟ / محمد يحيى احريمو

سبت, 27/11/2021 - 14:35

لماذا الحديث عن الغظفية الآن / محمد يحيى احريمو
تواصل معي خلال الأيام الماضية عدد من الإخوة الأفاضل مستغربين من مشاركتي في العمل المقدم للنشر: "الطريقة الشاذلية الغظفية الإرشاد والإمدادالجهاد "
ولهؤلاء جميعا أشكر اهتمامهم بي وبالكتاب وحسن ظنهم بي. وأسأل الله تعلى أن  يوفقني وإياهم لكل خير.
ولهم جميعا أقول: إن التراث الصوفي جزء عظيم من تراث الإسلام؛ وهو في الأصل تخصص في مقام الإحسان، وتحل بالإخلاص والزهد، ورغبة عن زخرف الحياة الدنيا، والتزام بالسنة، وإعمار لجميع الأوقات بالطاعات. وأهل هذا المقام هم صفوة الله من خلقه كما يقول الشاطبي. والمكروه عندهم كالحرام، والمندوب كالواجب، وهم أبعد الناس عن الشبهات والدعوى، ومبنى أمرهم على الالتزام بالكتاب والسنة والعمل بهما كما قال سيد الطائفة الجنيد: "علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن حاد عنهما قيد شبر فليس منا" أو كما قال رحمة الله عليه. وإلى هذا يشير الشيخ سيديا بابه رحمة الله عليه بقوله:
حقيقة الصوفي عند القوم *** أهل الصفاء من دواعي اللوم 
العالم العامل في إخلاص *** لا غير يا مبتغي الخلاص
ثم تطور التصوف مع مرور الزمن، وتأثر بمؤثرات أخرى منها الفلسفي، والاجتماعي، والاقتصادي، ومنها المتعلق بثقافة العصر وطبيعة تفكير أهله...
وظل بعض القوم  محافظين على السنة واقفين عند حدودها.
وقد قام الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله في القرن الخامس بالمصالحة بين الفقهاء والصوفية، وبين أنه لا تعارض بين علومهم إلا بحسب التخصص واختلاف جهة النظر. ومنذ ذلك الوقت لم تزل الحواجز تذوب بين التصوف والفقه بحيث لا يكاد يخلو أحد من علماء الإسلام المشهورين في العصور المتأخرة من تأثر بالتصوف بمفهومه العام، أو انتماء إليه بوجه من الوجوه... ويمكنني أن أقول: إنه قلما اشتهر أحد بالصلاح في هذه البلاد  إلا وله نوع تعلق بالتصوف علم ذلك من علمه وجهله من جهله...
وقد تساءل بعض الأخوة لما ذا نشر كتاب عن الغظفية في هذ السياق ؟ والجواب أن الكتاب في الحقيقة كتاب تاريخ وأدب وتصوف، يعالج تنظيما صوفيا واقتصاديا، وتاريخا حافلا من الجهاد والدعوة ونشر العلم يشمل عدة قارات، ويترجم لعدد من علماء البلد والبلدان التي دخلتها الطريقة في ليبيا ومالي وبلاد الشام وتركيا... والطريقة الغظفية مثل غيرها من الطرق يتاح للكتاب والمولفين الحديث عنها في كل وقت وليس هنالك ما يمنع الحديث عنها. وإنما يحاسبون  بحسب جودة أعمالهم، ودقة ما يكتبون والاهداف المنشودة من ورائه.
 وسأذكر ما سمعته مرار وتكرارا من المشرفين على الكتاب، من إدارة " الزاوية الغظفية في بو مديد" ومن بعض كبار الموظفين المقربين منهم، وهو "أن هذا الكتاب لن يستغل في الدعاية السياسية أو الإعلامية،  ولن يجد أي تبن رسمي، بل سيبقى مثل غيره من الكتب الموجهة للمثقفين والقراء". وقد رأيت من عزوفهم عن الإعلام وحذرهم من الاستغلال الرسمي للكتاب الشيء الكثير.
وليس الهدف من الكتاب نشر الطريقة الغظفية فهي عند مشايخها، من المضنون به، وقلما يسمحون لشخص بالانتماء لها إلا بعد اختبار طويل لا ينجح فيه إلا القلة، وبعد التأكد من الدوافع وصدق النية.
وأضرب المثال على ذلك بحفيد للشيخ محمد الاغظف مكث عدة أشهر في بومديد للانتظام في سلك الطريقة الغظفية، وبالعالم المتبصر القاضي بيه بن السالك المسومي وهو من هو علما واستقامة وفضلا؛ فإنه كان من أصفياء تلامذة  ابن عمه العالم القاضي العدل المحقق الجواد  الشيخ المحفوظ ابن بيه،  رحمه الله  ومكث معه أعواما عديدة، ولم يحصل على الورد إلا قبل وفاة شيخه بمدة يسيرة وبعد إلحاح شديد...
ولا محل لاتهامنا معشرَ مؤلفي الكتاب لأن الكتاب لم يكتب بمبادرة منا، بل بطلب من "الزاوية الغظفية في بومديد" وقد طلبت منا توخي الدقة والأمانة فيما نكتب .
والعجيب هجوم الناس على الكتاب ومؤلفيه قبل صدوره، ناسين أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره...
يتحدث الكتاب عن بعض أصول التصوف السني  المؤصلة بنصوص الوحي وكلام أجلاء العلماء كالغزالي والشيخ زروق والقاضي أبي بكر ابن العربي المعافري وابن تيمية وابن القيم، والكتاني وغيرهم. وفي بعض المسائل الخلافية يعرض الرأي والرأي الآخر، ويركز أحيانا على المنهج الوصفي أكثر من المعياري.
كما يبتعد  عن إثارة المسائل التي تثير الجدل والنقاش، ويتحدث عن المشترك المتفق عليه من مسائل التصوف أو الداخل في دائرة "المسائل الخلافية الفرعية" التي لا إنكار فيها. هذا مع احترام الذائقة العصرية والابتعاد عن كل ما يكدر صفوها. 
يترجم الكتاب لعدد من علماء بلادنا وبلاد الشام وليبيا وتركيا أغلبهم لم يكتب عنه شيء ذو بال من قبل.
وسيجد قراء
 الكتاب  إن شاء الله نبذا من تاريخ القراءات في القطر الشنقيطي، وجهود شيخها الشيخ  عالي بن آف في تجويد القرآن، وإقامته حروفه،  
ومباحثاته في منع القراءة بالهاء وغيرها من المباحث المفيدة. وسيجدون بحول الله تعلى أشعارا كثيرة لم تنشر قبل، من قصائد محمد سالم ولد الشين عالي ولد آف والمختار بن أحمد محمود الجكني وغيرهم. ويجد فيه أنصار المقاومة تاريخا ناصعا من الجهاد والتضحية، مع الشريفين الزينين : سيدي بن مولاي الزين (حفيد زين مولانا زين العابدين التلمساني) قائد عملية اغتيال گوبولاني، ومحمد الأمين بن زيني (زين العابدين) القلقمي الذي قارع الاستعمار الغربي الفرنسي والايطالي والانگليزي في ثلاث قارات... وسيجدون إن شاء الله تعلى من زهد الشيخ محمد الاغظف، وإنفاق مريده ابن أحمد الأسود وعلوم ابن الطالب عبد الوهاب الفلالي شارح مختصر خليل ورسالة ابن أبي زيد، ومن ورع الشيخ أحمد بن الشيخ محمد الأمين بن سيد لوالفي، وفتوة الشيخ الغزواني، وتأله والده الشيخ محمد محمود الخلف، وكرم الشيخ محمد محمود ابن بيه الحاتمي، وتبصر ابن عمه الشيخ المحفوظ، وحرص ابن يوسف التنواجيوي على الخشوع في صلاته ما يشفي غليلهم ويرفع عنا الحرج... وسيجد فيه إن شاء الله تعلى الدعاة تاريخا ناصعا للشريف ابن زيني من الدعوة والهجرة  في سبيل الله
... ويجد فيه المؤرخون مادة غنية في مختلف الحقول... ويجد فيه أنصار الاعتدال والوسطية بحوثا موجزة ومحررة لابن زيني الشريف المجاهد في التحذير من التكفير والصبر على النضال السلمي...
وسيجد قراءه مادة ثرية عن النظام الاقتصادي الفريد للطريقة الغظفية، ودورها في إحياء الأرض وبناء السدود وتفجير المياه والزراعة والغرس وتحقيق الاكتفاء الذاتي في مجتمع كسول...
ذا الكتاب عمل جماعي، وكان الجانب الذي كلفت به منه في البداية يتعلق بالمقاومة والهجرة الغظفية الى الخارج، ووضع عليه اسمي وهيء للنشر، مع بحث عن تاريخ الغظفية في الحوض وآخر عن تاريخها في الشمال والوسط من إعداد زميلي في كتابة الكتاب.. لكن اقتضى الحال بعد ذلك دمج تلك البحوث وإعادة ترتيب الكتاب، وتدخلت مع الأخ منسق اللجنة وغيره في بعض الفصول الأخرى.
إن هناك أفكارا نمطية عند بعض الناس مفادها أن مجرد الانتماء للتصوف يعني الانسلاخ من السنة والبعد منها، وهو أمر لا أساس له من الصحة. 
فأكابر علماء المذاهب الأربعة في العصور الأخيرة وأئمة الحديث كالعراقي وابن حجر والسيوطي ورموز الإصلاح كالإمام الشاطبي وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم  ليس أحد منهم إلا وهو يثني على التصوف السني ويعتبر أهله مثالا في الكمال والفضل.
وهذا الامام ابن تيمية لا يذكر الشيخ عبد القادر الذي هو من رموز مدرسته الحنبلية الأثرية إلا دعا الله له قائلا: "قدس الله سره" وتلميذه ابن القيم أودع خلاصة أفكاره في التصوف في كتاب "مدارج السالكين إلى مقامات إياك نعبد وإياك نستعين".
ومن علماء بلادنا طائفة اشتهروا عند العامة بمنابذة بعض صوفية زمانهم، ولكن الخبير بهم يعلم أن لهم تعلقا  في الجملة بالمنهج الصوفي العام. ومن هؤلاء الإمام المجدد الشيخ سيدي باب الذي ظهرت خلفيته الصوفية في أجوبته للشيخ أحمدُّ بنب، والشيخ بن حامني الغلاوي والفقيه محمد يحيى الولاتي، وشيخ مشايخنا سيدي محمد بن حين ناظم حكم ابن عطاء الله، وغيرهم رحمة الله عليهم جميعا. فالخلاف بين هؤلاء ومعاصريهم من الصوفية إنما هو في تحقيق معنى التصوف، وتخليصه من الشوائب. 
ولئن كان هذا حال بعض من يصنف خصما للتصوف؛ فإن عددا من أجلاء الصوفية قاموا بما عليهم في تنقية التصوف والرد على أدعيائه، ومن هؤلاء: القشيري في  رسالته، وابن الحاج العبدري في مدخله، والشيخ زروق صاحب كتاب "النصح الأنفع والجنة للمعتصم من البدعة بالسنة" وابن البناء، والشيخ التراد، والطالب أحمد بن طوير الجنة مؤلف "فيض المنان" وغيرهم.
هذا ولمتأخري الصوفية - مهما وجه لهم من انتقاد - جهود لا تنكر في نشر العلم، وإعمار المساجد والزوايا بذكر الله وعبادته، وجهاد أعداء الدين.
وكثير من المسائل التي صارت في الأخير مثار بحث بين متأخري الصوفية وخصومهم هي في الحقيقة بعضها طارئ في التصوف، وبعضها لم يكن شعارا للصوفية في القديم ولا ذا بال عندهم. ومن ذلك المبالغة في التبرك والتعلق بالمشايخ والتوسل بهم، والمبالغة في الضمانات والبشاىر، والألفاظ الموهمة لوحدة الوجود. 
بل إن أخذ العهد على المريدين، وترتيب الأوراد لم يكن من ديدن أوائل الصوفية، وقد صرح بذلك الشيخ زروق في النصح الأنفع، وغيره، فذكر أن التلقين لم يكن من شان الأقدمين، وأن  طريقة الشاذلية في عصره أي -الشيخ زروق - لم يكن فيها تلقين للأذكار. وقد طرأ ذلك التلقين بعد عصره، اجتهادا من بعض المشايخ ومراعاة لظروف الزمان والمكان ، وتحقيقا لمقصد الديمومة في العمل، من غير ادعاء فضل للأذكار والأوراد غير  الفضل العام الثابت في السنة لتلك الأذكار. وهذا ما صرح به محمد ابن ناصر وغيره ونقله عنه الكتاني في رسالته "أداء الحق الفرض" وبعض هذا البحث المتعلق بالأوراد وتأصيلها مبين في كتاب "الطريقة الغظفية" المشار إليه آنفا. وقد أشرت إلى هذا لبيان حجم خطأ هؤلاء في محاكمة الصوفية عامة 
بأمور غير متفق عليهم بينهم.
أعلم بحمد الله أن العض على السنة بالنواجذ هو طريق الوصول إلى كل خير، وأن أفضل الأذكار المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أفضل ما يداوم عليه العبد ما داوم عليه صلوات الله عليه وسلامه من أذكار الصباح والمساء، وما يقال عند النوم والاستيقاظ والدخول والخروج، وسائر الأحوال التي تمر بالإنسان... وتلك خلاصة أكدها أجلاء الصوفية كالشعراني والشيخ زروق وغيرهم، وانتهى إليها مشايخ أجلاء بعد ما تلقوا كثيرا من الأوراد والأذكار من أمثال الحافظين: محمد عبد الحي الكتاني، ومحمد حبيب الله الميابي وغيرهم... لكنني بالمقابل لا أبدع من أخذ أحد الأوراد التي تداولها العلماء بشروطها المقررة عندهم، والتي تجعلها من قبيل الإجراءات المنظمة للوقت، وأعرف أن المداومة على الذكر من أعظم أعمال البر وأنها كانت مفتاح خير لكثير من الناس...
وأعرف كذلك أن الحركات والتنظيمات الإسلامية المعاصرة اقتربت من الصوفية في مجال تنظيم الوقت والتقيد ببعض الأعمال اليومية، والعمل الجماعي... وذلك مبين في كتبهم معروف في أدبياتهم. هذا مع اختلاف المشرب والعصر...
وأعرف أن هذا التراث الصوفي العظيم إرث لنا جميعا نأخذ منه ما وافق الأدلة وندع ما سواه والله الموفق.
وفي الختام أنشد مع المرحوم العقاد:
وما غيبتني تلكم الحال عن سنى *** 
من الرأي يتلو منه فرقدا منه فرقد
جفاتي  وصحبى لا اختلاف عليهم ***
سيعهدنى كلٌ كما كان يعهد

تصفح أيضا...