عن د. محمد الحسن ولد لبات وشعب السودان الجميل../ محمد ولد محمذن فال

جمعة, 09/10/2020 - 09:24

من قرأ كتاب "مهمة الموساد في الجنوب السوداني" يستحيل عليه تصور وجود استقرار في هذا القطر مهما بذل أهله، ومهما بذل غيرهم.

يعود الاهتمام الاسرائيلي بالسودان - حسب الكتاب - إلى سنة 1953، حين ربطت الدولة الصهيونية علاقة مع الصادق المهدي، لتقوم أيضا بتدريب وتمويل حركة "الأنيانيا" من سنة 1955 إلى  1972.

والطريف والمؤلم - في آن واحد - أن غنائم إسرائيل من هزيمة الأيام الستة، من ألبسة الجيش المصري وعتاده، جُهزت بها هذه الحركة.

كانت غولدا مائير، وغيرها من منظري الدولة الصهيونية، يرون ضرورة فك الارتباط بين الجيش السوداني والجيش المصري، وكذلك تعزيز العلاقات بدول محيطة بالعالم العربي: تركيا، إيران، أثيوبيا، كينيا.

يقول رئيس الشاباك السابق آفي دختر : إن انفصال الجنوب يشكل مصلحة إسرائيلية بالدرجة الأولى، لأن كل الزعماء تبنوا خطأ استراتيجيا في التعامل مع السودان، يقضي بتفجير أزمات مزمنة ومستعصية الحل، والآن جاء دور الغرب.

هذا الكتاب الإسرائيلي يؤرخ لما قبل 2011، وهناك كتب أخرى تشير إلى الكم الهائل من التعقيدات ودعاية الكراهية الموجهة لهذا البلد الجميل وأهله الطيبين، من أجل تذكية روح النعرة والخلاف والاختلاف، مثل الكتاب التحريضي: دارفور .. تاريخ حرب وإبادة، الذي ألفه الكاتبان جولي فانت وألكس دي فال، وكذلك كتاب السفير الأمريكي السابق فى السودان دونالد بيترسون: في داخل السودان.. الإسلام السياسي الصراع والكوارث.

لعل نجاح د. محمد الحسن لبات السحري في مهمته المعقدة يعود لكونه لم يقرأ هذه الكتب، أو قرأها ونحاها جانبا، واعتمد مهاراته الشخصية وقواعد الوساطة، التي من شروطها: الابتعاد عن تاريخ ومسببات العقدة محل النظر، والتركيز على فوائد الحل وأهميته انطلاقا من الواقع الحاضر، وهو ما يحتاج المبادرة والابتكار اللذين يشترط في الوسيط أن يكون مؤهلا لهما. 

فلو كان قرأ كتبا تدعي النظرة الشاملة لمشكلة السودان الجامع - وهي كتب ينطلق مؤلفوها كل من مرجعية فكرية مغايرة لمرجعية غيره - مثل: النخبة السودانية وإدمان الفشل للدكتور منصور خالد، أو السودان وأهل السودان أسرار السياسة وخفايا المجتمع للباحث يوسف الشريف، لزاد من إشكال القضية بدل حلها.

ويقال نفس الشيء لو كان قرأ كتبا تدعي معالجة منفردة لحالة الجنوب، مثل: السودان.. أحوال الحرب وطموحات السلام.. أو قصة بلدين للدكتور منصور خالد، أو انفصال جنوب السودان.. الجذور والتصورات للكاتبين د. دريد الخطيب والأستاذ محمد أمين الشب، أو مشكلة جنوب السودان بين الميراث التاريخي والتطورات السياسية 1955-2011 للدكتور زكي البحيري، أو الحرب والسلام في جنوب السودان للباحث الجنوب سوداني أبيل أريل.

وكان سيتكرر معه الأمر لو قرأ عن دارفور كتبا مثل: ما وراء دارفور .. الهوية والحرب الأهلية في السودان للباحث الباقر العفيف، أو دارفور .. من أزمة الدولة إلى صراع القوى العظمى للدكتور عبده مختار موسى.

قد نتساءل لماذا لا تساعد هذه الكتب والأبحاث وغيرها كثير  في الحل أو في تقريب وجهات النظر، أو حتى في إرشاد المهتمين في إيجاد تسوية؟ 

السبب بسيط: هو أنهم يكتبون ويتصورون وينظرون لما هو خارج عن دائرة إدراكهم، إنها عوامل خارجية تحرك الداخل وتوجهه نحو التأزم والتفكك.

لا ننسى أن رئيس الشاباك السابق قال: إنه بعد انفصال جنوب السودان يأتي الدور على غربه بتفجير أزمات مزمنة ومستعصية على الحل.

وهذا يقودنا لذكر بعض أشهر الوسطاء في المائة سنة الماضية:

*انيفيل تشامبرلين: رئيس وزراء بريطانيا 1938، الذي قاد وساطة بين ألمانيا وتشيكو سلوفاكيا إثر خلافهما على مقاطعة "السوديت"، كانت النتيجة إلحاق المقاطعة بألمانيا، غير أن ضم هتلر لتشيكو سلوفاكيا في الحرب العالمية الثانية، أدى إلى إلحاق المقاطعة بتشيكوسلوفاكيا وطرد الألمان منها.

*فولكه برنادوت: الوسيط بين الفلسطينيين واليهود إبان حرب 1948، لكنه اغتيل قبل اكتمال المهمة من طرف منظمة "أرغون"، بعدما اقترح وقف الهجرة اليهودية ووضع القدس بأكملها تحت السيادة الفلسطينية، وبالمناسبة فهو أول وسيط في تاريخ منظمة الأمم المتحدة.

*كوفي عنان: فشل في سوريا لانطلاقه من خلفية دينية.

*الأخضر الإبراهيمي: فشل في سوريا، لكونه لا يملك المبادرة ولا القرار، ولخضوعه لتوجيهات الجامعة العربية المنقسمة على نفسها بخصوص الموضوع، ولسيرته غير المرضية وغير الناجحة في وساطاته السابقة في كل من العراق وأفغانستان.

*ستيفان ديمستورا: فشل في سوريا لعدة أسباب، منها وساطته السابقة في البوسنة التى أدت لمذبحة :سربرينيتشا" الرهيبة، وتخوف البعض من تكرارها في سوريا.

من أشهر تعريفات الوساطة: الطرق البديلة عن الإكراه أو العنف، أوالنشاط الودي.

ومن أهم تقنياتها: الاستماع الجيد، والتركيز على المصالح أكثر من المواقف، وتجاوز الماضي والتركيز على الابتكار.

والوساطة كمصطلح سياسي حثت عليها الدول والمنظمات والمجتمعات العالمية،

وإصلاح ذات البين كمبدإ تعبدي حث عليه الإسلام، قال الله تعالى: (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم)، وقال: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس). وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي داود: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة"؟ قالوا : بلى، قال: "إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة"، زاد الترمذي: "لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين".

والتوفيق والنجاح في الوساطة مرتبطان بتجريد النية، قال القرطبي في المسألة الثانية من المسائل الخمس المتعلقة بتفسير الآية الكريمة: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها): يكونان من أهل العدالة وحسن النظر والبصر بالفقه.

وهذه المسائل - لا نزكي على الله أحدا - توفرت في الوسيط محمد الحسن، فهو مر بمرحلة المحظرة، وتخرج من كليات القانون، واشتهر بالجدية في سلوكه الشخصي وفي حياته اليومية.

ولعل من أهم الأسباب الخفية - إذا كان لا بد من ذكر أسباب - التي ساعدت الدكتور في مهمته، بالإضافة إلى حبه للسودان، وهي حالة فطرية عند الموريتانيين ككل:

- بيئة النشأة التي لا تقبل الفشل ولا الهزائم.

- تربية الحركة الوطنية الديمقراطية المرتكزة أساسا على الانطلاق من الواقع والحال المحليين، وانخراطه في تنظيماتها الطلابية التي ناضل في صفوفها منذ الإعدادية وحتى الجامعة.

- كونه أبرز محاوري هذه الحركة، سواء مع مثيلاتها في الوطن أو مع السلطة أو مع حركات التحرر العالمية.

- الحياة الجماعية في جامعة داكار والجامعات الفرنسية، حيث تعدد الوجوه والثقافات والتوجهات.

- رئاسة جامعة انواكشوط في طور نشأتها، وطور تكون الاتحادات الطلابية بتعدد مرجعياتها ومشاربها، وبالتالي مطالبها وسلوكها.

- معايشته لولادة التعددية الديمقراطية في موريتانيا، وما صاحبها من حركية ونشاط وخلاف واختلاف، من البلديات حتى كتابة الدستور، ونظام البرلمان وغرفة مجلس الشيوخ، التي كان مقترحَها والمدافع عنها، وقد اعتبر أنها سبق موريتاني على مستوى القارة.

- عمله وسيطا ومفاوضا في منطقة "البحيرات"، أخطر منطقة وأكثرها تعقيدا إبان حروبها ونزاعاتها الإثنية.

هذه التجارب، بالإضافة إلى كونه أستاذا ممارسا متعودا على الأسئلة والأجوبة، لعبت دورا مهما، يضاف إلى ثقته أن السودان دولة عظيمة ومهمة في القارة وفي العالم، تحتاج إلى الاستقرار، والتضحيةُ من أجل استقرارها واجبٌ شخصي وموريتاني وإسلامي وإفريقي ودولي.

وفوق هذا كله إيمانه الراسخ أن الاتحاد الإفريقي كهيئة اعتبارية لديها من الإمكانات المعنوية والمادية - إذا تركت لحالها - ما هو كفيل بحل جميع الإشكالات والمشاكل أيا كانت داخل الاتحاد، وقد برهن الدكتور على ذلك ولله الحمد لله. 

نسأل الله له التوفيق، وللسودان الحبيب الحفظ والأمان.

تصفح أيضا...