د. حماه الله والبيان الثقافي رقم (2) أسئلة الثقافة والمثقفين (2-2) / محمد ولد محمذن فال

ثلاثاء, 11/08/2020 - 10:18

ما هي الثقافة:

لها تعريفات متعددة:

يعرفها "فون اغرونيوم" بأنها: نظام مغلق من الأسئلة والأجوبة المتعلقة بالكون وبالسلوك الإنساني.

غير أن أشملها وما تواضع عليه الناس ما عرفها به الدكتور أدوارد تايلور منتصف القرن التاسع عشر بأنها: ذلك المركب الكلي الذي يشتمل على المعرفة والمعتقد والفن والآداب والأخلاق والقانون والعرف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع.

يعلق الدكتور معن زياده قائلا: على ضوء الدراسات المستجدة أصبح بمقدورنا أن نأخذ على تعريف "تايلور" عموميته وطابعه الوصفي، وإهماله حركية وديناميكية الظاهرة الثقافية من جهة البيئة، والمحيط الخاص بتلك الثقافة من جهة أخرى.

حاليا يصعب تحديد مصطلح "ثقافة" هكذا كحالة خصوصية لمجتمع ما، وإنما ثقافات لتشابك العالم وتطور شبكات الاتصال وسيطرة الشركات العابرة للقارات على المجال الحياتي بكل أنواعه من السياسة حتى أنماط الأكل.

قديما كانت الثقافة تنتقل من جيل لجيل ليس بالمفهوم البيولوجي وإنما بالتلقين، وعن طريق هذا التلقين تتكون منظومة ثقافية اجتماعية في فضاء معين وواقع معين.

اليوم تدخلت وسائط التواصل الاجتماعي لتخفف من التواصل الحسي، ولتفرض واقعا اجتماعيا ذهنيا، ينافس وينازع الواقع الثقافي الاجتماعي المعاش موقعه وسيطرته، مما جعل المثقف العربي وليس الإنسان العادي يعيش اغترابا على جميع الصُّعد.

وهنا تعاني الثقافة - في الدول العربية - و"منتجها" المثقف العربي من صعوبة لعب أي دور له فاعليته وانعكاساته على الحياة العامة بصفة مستقلة، لهيمنة ما يعرف بالثقافة الموجهة "التي يتم التخطيط لها على أسس متينة وقواعد ثابتة".

وهذه للأسف هي السائدة في العالم العربي الذي يتكلم البيان عن مثقفيه، هذه الثقافة الموجهة هي التي تصادر الكتب وتحاسب على مقالات الرأي وتوقف الجرائد والمجلات عن الصدور والمالكة والمتحكمة في قنوات البث.

ولعل هذا ما يحاول د. حماه الله البحث عن تجاوزه في تساؤلاته المشحونة بالأمل والملاحظات المرنة والمآخذ اللينة. 

الهويات القلقة

هي نتيجة لعدم وجود إيديولوجية عربية صرفة كما ذكر البيان، وذلك لتغييب رواد النشأة للعامل الأنتربولوجي واللساني والسوسيولوجي وعلم النفس في المنطلقات التي على أساسها وجدت هذه الإيديولوجيات أو أريد لها أن توجد.

إن التطابق في المستوى الواحد من الثقافة والمعرفة لا يعطي دائما نتيجة أمام الاختلاف الفكري النابع عن خلفية المعتقد.

وهنا تأتي أهمية النظر - في كل مشروع مجتمعي - إلى أسباب الترابط الفكري والتفاعل الثقافي.

إن عدم النظر للتركيبة السكانية للبلدان العربية "ديمغرافيا" وعقائديا و"لغويا" كعامل أساسي للوحدة، عند تبني أي توجه سياسي أو ثقافي أو تنموي يمس مصير البلد ولا ينظر إليه ككتلة غير متجانسة متعددة الوجدان والفلكلور، هو السبب الرئيس في الحالة القلقة سياسيا وثقافيا، التي تعيشها الثقافة والمثقف العربيين وحاضنتيهما الصغرى الدولة والكبرى الأمة.

هذه العوامل المغيبة هي السبب في حيرة المثقف العربي كحالة ثقافية سياسية مستقلة عن القطر منتمية للأمة، وهي الحالة الوجدانية التي يعيشها د. حماه الله، لكن بطريقته التي تحبذ الأمل على اليأس والانطلاق بدل الركود والاستسلام .

 لا يغيب عنا أن الإيديولوجيات الممارسة في الأقطار ليست من نتاج الواقع والحالة المعاشة ولا قراءة التاريخ المحلي، وإنما استوردت كما استوردت الكماليات، وبالتالي لها تنوعها حسب مصادرها التي هي مرجعياتها.

وبما أنها خارجة عن السياق المحلي وليست نابعة من واقعه السوسيولوجي - باختلافه وتعارضه أحيانا - وكذلك تسلسله التاريخي تبقى أداة خارجية لإدارة الصراع الداخلي وديمومته.

حزب المثقفين

بإشارته إلى حزب المثقفين، يستدعي د. حماه الله - قصد أو لم يقصد - ما عرف في إيطاليا القرن الرابع عشر "بالثقة السميكة": العلاقة الشخصية بين الأعضاء في المجموعة الواحدة، والتي تطورت بعد ذلك إلى ظهور حركة "الرينيصانص" (إعادة الميلاد)، ومنهجها في قراءة العلوم والمجتمع "ليمانيسم" لتصبح "الثقة الرقيقة": الناس يثقون بعضهم ببعض، لأنه تحكمهم نفس الحكومة والقانون والمعرفة الشخصية بينهم، وهو الذي تعتبر الدولة الحديثة امتدادا له.

هذه النظم ظهرت في الفترة الزمنية التي يطلق عليها عصر النهضة، ويطلق عليها بعض المفكرين الألمان الحداثة المبكرة.

نحن إذن أمام ورقة تدعو لمشروع إحيائي نهضوي شجاع، يأخذ من حركة التاريخ وتجاربها الرائدة أسس انطلاقته، خصوصا تجربة القرن الخامس عشر، وثورة المذهب الإنساني المتوقدة، التي مهدت لعصر الأنوار في أوروبا بقانونها الشهير الذي فتق دوافع جديدة للاكتشافات في الأفكار والحجج:

"رفض الهزيمة في النقاش، رفض الاعتراف بنقطة النهاية للجدل والنقاش"، الذي أنتج أساليب ومفاهيم جديدة، مثل: فلسفة ديكارت.

يعزز ما سقناه رفض الدكتور للاستسلام، وعدم البحث عن نهاية، ودعوته المثقفين للرجوع للكتابة والتفكير والإبداع والخيال والأمل قائلا: ولن يجدوه إلا حيث هو في الحرف والكلمة والمعنى، ذاكرا في بعض الفقرات القصة والرواية.

وهي نفس دعوة "الإنسانيين"، نهاية القرن الرابع عشر والقرن الخامس عشر، للتركيز على خمسة علوم إنسانية: الشعر، النحو، التاريخ، الفلسفة الأخلاقية، فن الخطابة.

هنا يتجلى صراحة تأثير "التاريخانية" على قراءة د. حماه الله لحالة المثقف العربي، وللحالة الثقافية بصفة أشمل، وللحالة الوجودية الراهنة للدولة العربية بصفة أدق، باستحضاره الظرف والزمان خصوصا الماضي بصفة مستمرة، يقول عن المثقف: صنعته التي تميزه منذ العصر الوسيط أن يكون مبدعا وناقدا وكاتبا.

ما بعد الربيع العربي:

يكتب الدكتور بحسرة: تحت وهج الثورات العربية ينقسمون إلى وطنيين وديمقراطيين، وكأن الخيار بين من يطالب بالديمقراطية ومن يضحي بالوطن، ومن يدافع عن هذا الأخير يرفض الحرية...

لعل د. حماه الله لم يقرأ قول "سكرياسين" أحد أبطال رواية سيمون دي بوفوار "المثقفون": إننا نقترب من عصر ستكون فيه الإنسانية، لأسباب عدة، فريسة لمشاكل لن تترك لها ترف التعبير عن نفسها.

هل نحن نعيش نبوءة أبطال هذه الرواية المؤلفة بعد أحداث الحرب العالمية الثانية وتحت وطأة تداعياتها؟

أم هي الجدلية الخلدونية: استمرارية الحياة وانقطاعها وتبدل الأدوار؟

وتحت وطأة صدمة التجاذبات العدمية بين من ...؟ ومن ...؟ يحاول الدكتور على مضض إيجاد مسوغ لدخول بعض المثقفين في تفاهمات مع الدولة كملاذ أخير لحماية كيانها.

هؤلاء المثقفون على افتراض حسن نياتهم لم يأخذوا العبرة من التاريخ ولا من تجارب المثقف الجاد الملتزم مع الساسة وألاعيب السياسة.

يقول "هنري" أحد أبطال رواية "المثقفين": لجان، محاضرات، مؤتمرات، خطابات، كلام، كلام ... إلى ما لا نهاية من المناورات، والتساهل، والقبول بالتسويات العرجاء...

يختم د. حماه الله بيانه بجملة حالمة تحكمها العاطفة والشفقة على راهنية الواقع: يبدو الاصطفاف اليوم بين الإسلاميين والحداثيين خادعا وخطرا على المجتمعات العربية والإسلامية، وينبغي تجاوزه نحو الاستقطاب الإبداعي الذي يخفف من غلواء الصدام السياسي والإيديولوجي.

إنها إذن الأممية من جديد، لكنها خلاف سابقتها أممية ثقافية!

هذا البيان يستلهم دور المثقف عبر التاريخ في تغيير الواقع والتأثير فيه وعليه، فكلما تطور الأفق المعرفي الذي يدعو له البيان - وخصوصا العلوم العقلية لدى الفرد - مكنه ذلك من قابلية التأثير في عقول الآخرين وبالتالي في الواقع، لأن عقل الإنسان مكون من جهازين: (استقبال + بث).

 إنها دائما تداعيات القرن الرابع عشر"الرينيصانص" والمذهب الإنساني على الدكتور: "قدرة العقل البشري الفريدة والاستثنائية".

 يأتي هذا البيان في الوقت المناسب، بعد قراءة متأنية للتاريخ  وأخرى واعية للواقع بتعقيداته وتنوعها، ممحصة للخلفيات وما قد يكون الدافع والسبب، من مثقف ينطلق من البذخ الفكري، ورفاهية الوعي، ودقة المعلومة كعالم تاريخ يعيش تدافع أحداثه ويمتلك لغة تفكيكه وتشريحه، والعاطفة التي لا يمنعها الحس الوجداني المرهف من النظر بعين العقلانية إلى الأشياء والتصورات.

على المثقفين أن يتبنوا هذا البيان ويوقعوه، وإلا ضاعت عليهم الفرصة كما ضاعت على "فولتير" صاحب رسالة التسامح (1763م)، وصاحب المقولة الشهيرة: قد أختلف معك في الرأي لكنني قد أموت دفاعا عن حقك في التعبير عنه، ومن قبله على "مونتسكيو" (1755م) صاحب كتاب "روح القوانين"، فقد كتبا في نفس الموضوع ولنفس الأسباب، إلا أن معاصريهم من ذوي الفكر لم يحملوا معهم الهم كما فعل معاصرو "أميل زولا" بعد ذلك بكثير، فكانوا أصحاب المنعطف الخطير في دور وتأثير المثقف في العصر الحديث.

عليهم أن يكتبوا له ديباجة مثل ديباجة "البيان الشيوعي" التي كتب ماركس ورفاقه سنة 1847م:

"إن الشيوعيين قد آن لهم أن يعرضوا أمام العالم كله طرق تفكيرهم وأهدافهم واتجاهاتهم، وأن يواجهوا خرافة شبح الشيوعية ببيان من الحزب نفسه، ولهذه الغاية اجتمع في لندن شيوعيون من مختلف القوميات ووضعوا البيان التالي".

تصفح أيضا...