موريتانيا.. قصة "مدن الملح"

أربعاء, 17/01/2024 - 01:35

هل كان الروائي السعودي الكبير عبد الرحمن منيف، يعرف أن الاسم الذي استعاره لملحمته، ليصف به مدنا بلا ملح، هو اسم حرفي لمدن ملح حقيقية دارت فيها عجلة التاريخ لقرون بفضل مناجم الملح وقوافله وحواضره. 

 

تلك هي قصة مدن المرابطين، وأحفاد العرب والصنهاجيين، الذين بدأت قصتهم أولا مع يحيى بن إبراهيم الكدالي ويحيى بن عمر اللمتوني، ثم مع الثنائي عبدالله بن ياسين وأبو بكر بن عمر اللمتوني مطلع القرن 11 الميلادي.

 

ابن ياسين من خلال تأسيسه لزوايا التعليم، أو ما يعرف حاضرا بـ"المحظرة الموريتانية"، وابن عمر من خلال تأسيسه لأولى الإمارات والحواضر التي أفسحت مجالا واسعا فيما بعد للصنهاجيين والعرب نحو تخوم أفريقيا الغربية، الهجرات التي أعطت لغرب أفريقيا ومنطقة الساحل هويتها العربية والإسلامية. 

 

في ذلك المجال الواسع وسط الصحراء الكبرى الذي اندفعت نحوه قبائل المرابطون، وتاليا قبائل العرب الهلالية، ومئات البيوتات القادمة من المشرق والمغرب، تأسست مدن الملح، وسارت قوافله التي رسمت مسارات واحدة من أروع الحضارات البدوية والصحراوية التي كانت تنقل الثروات والمكتبات طولا وعرضا بين أطراف الصحراء. 

 

وفد العرب بإبلهم إلى الصحراء الكبرى، وانضمت قبائلهم إلى قبائل صنهاجة العظيمة، فصاغ الاثنان ملحمة لم تعرف الصحراء مثلها، بدأت معالمها في الظهور بعد سقوط دولة المرابطين في المغرب في القرن 12 الميلادي، ثم بدأت تجلياتها الكبرى واستمرت لنحو خمسة قرون، وهي الفترة التاريخية التي أسست فيها قبائل الصحراء أكبر سلطناتها وعاشت في وئام وثراء بفضل التجارة، وبفضل قوافل الملح. 

 

وفي موريتانيا الحالية، وصحراء أزواد الواقعة شمالي مالي، تمكنت هذه القبائل من السيطرة على طرق التجارة، وحفرت مناجم الملح في "تودني وتغازة"، والآبار في الطريق، وتمكنت من حيازة ثروات ضخمة قوامها الإبل والملح وذخائر المعارف والمكتبات المحمولة. 

 

واحتفظت هذه القبائل بخصوصيتها وسط هذه الصحراء، حتى دخول الاستعمار لمنطقتها نهاية القرن التاسع عشر، ليصطدم مع شعوب مختلفة، شعوب تأبى تغيير نمط حياتها وترفض مزاعم التمدن والأنماط الحضارية الغربية التي ستغير حياتها. 

 

استقلت موريتانيا، وباتت فيها حواضر ومجتمعات متمدنة، زحف نحوها قلة قليلة، لكن ذلك لم يكن كافيا لهذا الشعب لينقض خيمه ويسرح إبله، ويلغي المحظرة القرآنية، فأي حياة ستمنحها له المدينة بأفقها النفعي الضيق! 

 

لم يكن الأمر بمثل ما كانت عليه مدن الملح لعبدالرحمن منيف، فملح موريتانيا لم يكن بإغراء النفط لتنفض شنقيط يديها من البادية وتهرع نحوه وتبني مدنا من الملح، ولا أسس الاستعمار لها مدنية حقيقية باستثناء تركه للغته التي رفضتها الصحراء ولفظتها بعيدا عنها. 

 

ورأت موريتانيا أن صفقة التمدن لم تكن بها أية مقومات حقيقية، سوى هجر مدن الملح إلى مدن إسمنتية، وتسريح طلبة الزوايا إلى تعليم ينزع منهم هويتهم، فكانت صفقة خاسرة لا معنى لها، خاصة بعد هزات التجربة الديمقراطية الوليدة في البلاد التي أشغلت الطبقة المثقفة والسياسية في البلاد ورمت بها وسط الأيديولوجيات السياسية المتخبطة بين يسار ويمين وشرق وغرب، ما زهد منه السواد الأعظم في البلاد، ممن زادته تلك التجربة قناعة، أن ليس له سوى المضي والمحافظة على إرثه العربي والمرابطي وسط صحرائه المنيعة.   

 

التحول..

 

عدت اليوم إلى موريتانيا في زيارة هي الرابعة لي في ثلاثة عقود، خلال زياراتي الأولى لم أر غير الإحجام عن المدنية ونبذها بالنسبة لكثير من الموريتانيين، لكن لأول مرة أرى تغيرا كبيرا، ولمست مساعي طبقات كثيرة ورغبتها في أن الآوان قد حان لترك التردد والخوف من دخول معترك المدينة، وهو حراك سيلاحظ الزائر للبلاد أن وقوده شباب البلاد من الجيل الجديد، الذي أصبح يشعر بالعالم من حوله بفضل وسائل التواصل الاجتماعي التي اقتحمت على الموريتانيين مرابض إبلهم وحلقات دروسهم ومضاربهم. 

 

لقد فطنت موريتانيا أخيرا، وتعلمت أن ما كانت عليه في المحافظة على إرثها العلمي، وما بنته من أخلاق ومعارف في عزلتها تلك، لهي مكاسب لا يجب التنازل عنها، خاصة بعد ما رأته في التجارب الأيديولوجية التي قادت الربيع العربي، والتي حاولت الاقتراب من بلاد المرابطين والزج بها في أتونها الذي أحرق بلدانا عربية بأكملها، لكن الأصالة التي ترسخت في موريتانيا وإرثها العلمي والأخلاقي أنقذاها من ذلك. 

 

موريتانيا اليوم، بدأت تتطلع بقوة إلى دورها العربي والأفريقي، مستفيدة من كونها حلقة وصل حضارية بين السافانا الأفريقية، والصحراء الكبرى، وبدأت تتقدم كثيرا في هذا الاتجاه، عبر محاربة عقود من الفساد السياسي الذي دب بين بعض الطبقات وحال دون تقدم العملية الإصلاحية التي كانت عازمة على المضي فيها.

 

بدأ الموريتانيون اليوم في محاربة الفساد ومحاكمة رموزه، وتتطلع البلاد لثرواتها في الصحراء وفي البحر، وبدأت تعقد شراكات واسعة مع العالم المتقدم، وأصبح الجيل الجديد يتقدم نحو التعليم الحديث مع محافظته على المحظرة، وظهر جيل شاب من الجنسين يشعر بالعالم من حوله ويقفز فوق الأنماط السائدة، وأقبل على اللغة الإنجليزية بدلا من الفرنسية، وعلى التكنولوجيا ودراسة العلوم. 

 

موريتانيا دشنت رحلتها نحو تأسيس دولة مدنية معاصرة، وبدأت في بناء بنية مدنية ومنشآت حيوية مختلفة، وكل مقومات الحياة التي تجعلها في مصاف الدول الفاعلة في محيط متنوع وصاعد، لكن دون تنازل قيد أنملة عن مكاسبها وهويتها الوطنية التي تعتز بها وتتشبث بها. 

سكاي نيوز عربية 

تصفح أيضا...