المجلسيان ! / محمد ولد محمذن فال *

خميس, 28/03/2019 - 13:39

منذ بداية التدوين والمؤلفات تترى بعضها يستحسنه الناس والبعض يقفون عنده ملاحظين ومصححين ومنتقدين والبعض الآخر يطرحونه لأسباب يعرفونها نتيجة قواعد ومقاييس أجمع عليها أهمها : عدم حصول الثقة في المصادر المنقول عنها وانعدام الموسوعية المعرفية لدى المؤلف ....

لذا برزت كتب بذاتها وتوفر لها الخلود والقبول تسلسلا من سلف من الأمة لخلف منها إلى الآن، ونسيت كتب وطمست آثارها ولم يبق في الذاكرة منها غير الاسم وأحيانا ينسى الاسم نفسه ..
لقد ألف في التفسير منذ عصر التدوين إلى اليوم ما لا يحصى من المؤلفات غير أن الذاكرة أو على الأصح التداول اقتصر منها على ما يقل عن العشرين .
وألف في الفقه الكثير والكثير سواء في الأصول والفروع أو القواعد والنوازل ما لا يعد غير أن التداول اقتصر على القليل منها.
وألف في النحو والصرف وعلوم الآلة المختلفة ما لا يعلم عدده إلا الله غير أن الأهمية بقيت محصورة في مراجع ومتون قليلة معينة.
نفس الشيء ينطبق على كتب التاريخ والأيام والحوادث أيضا.
وليس علم السيرة النبوية المعظمة والنسب الشريف بمعزل عن هذا، فقد كانا من أقدم ما ألف فيه المسلمون ابتداء من عهد عروة بن الزبير ت: 94 هـ، أبان بن خليفة المسلمين عثمان بن عفان رضي الله عنه ت: 105 هـ، ابن شهاب الزهري ت: 124 هـ، موسى بن عقبة ت: 141 هـ، ابن إسحاق / أبو بكر محمد بن إسحاق بن يسار ت: 151 هـ، الواقدي / أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد السهمي ت: 207 هـ  إلى ابن هشام/ محمد بن عبد الملك ت: 218 هـ لتتوالى الكتب المختصرة والمطولة والموسوعات في هذين الفنين.
لكن التداول ظل محصورا في القليل وأكرر القليل منها إذا ما نظرنا إلى العدد المعروف منها لدينا ناهيك أيضا عن المجهول ... 
من أكثر هذه الكتب تداولا رغم وجود غيرها:
1 - سيرة ابن هشام وشرحها المعروف بالروض الأنف للسهيلي، ولعل سبب تداول هذا الكتاب - بالإضافة إلى الاختصار - قوله في المقدمة:
وأنا إن شاء الله مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ومن ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ... إلى أن يقول : وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق مما ليس لرسول الله صلى الله عليه سلم فيه ذكر ولا نزل من القرآن فيه شيء وليس سببا لشيء من هذا الكتاب ولا تفسيرا له ولا شاهدا عليه لما ذكرت من الاختصار، وأشعارا ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث عنه به، وبعض يسوء الناس ذكره، وبعض لم يقر لنا البكائي بروايته، ومستقص إن شاء الله ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية والعلم به.
وهو تنويه يعطي للقارئ الثقة في الكتاب وينبهه إلى حرص المؤلف على اختيار صدقية وجدية ما ينقل وعن من ينقل.
2 – جمهرة قريش.
3- عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير لابن سيد الناس الأندلسي، واختصاره المعروف: العيون في تلخيص سيرة الأمين المأمون واختصار هذا الأخير المسمى: إنسان العيون لبرهان الدين الحلبي المشهور محليا بالسيرة الحلبية.
هذه الكتب اختصرها العلامة المجلسي رحمه الله / أحمد البدوي في نظميه:
1 – عمود النسب : قال حمادن رحمه الله عند قول الناظم:
ولست إلا من مشاهير الكتب .. آخذ فليزكهــــا أو ليسب.
كجمهرة قريش لأبي عبد الله المصعبي الزبيري، وليس بينه وبين عبد الله بن الزبير إلا أبوان أو ثلاثة. وربما ينسب الرجل ويقول: هو حي اليوم ، وكحلة السيرى في أنساب الورى للولي / محمد بن سعيد اليدالي، والروض الأنف للإمام السهيلي، وغيرها من الكتب المشهورة القديمة اهـ.
قوله وغيرها من الكتب المشهورة القديمة ربما يدخل فيه: نهاية الأرب للقلقشندي و الاشتقاق لابن دريد وجمهرة أنساب العرب لابن حزم وغير وغير ..
2 – الغزوات :
أرجوزة على عيون الأثر .. جل اعتماد نقلها في السير
هذان النظمان شرحهما تلميذه وابن أخيه / حمادن بن ألمين رحمه الله تعالى آمين .
وبظهورهما صرفا أعين الناس عن غيرهما من كتب هذا الفن، لتأثر المؤلفين بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وانفعالهما العاطفي الشديد مع أخلاقه عليه الصلاة والسلام المنعكسة على أقواله وأفعاله، فنقلاها بلغة صادقة تنقل الحدث والخبر من الذهني إلى المشاهدة، فشدا انتباه القارئ وعواطفه الجياشة تجاه نبيه عليه الصلاة والسلام.
ولا عجب أن يصرفا الناس عن غيرهما فالأعمال بالنيات، ونية الناظم وقصده يعبر عنهما قوله:
وبعد فالعلم أهم ما الـــــــهمم .. تنافست فيه وخير مــــــــــــغتنم
وخيره والعلم تسمو رتـــبته  .. من فضل ما دل عليه ســـــيرته
وقوله :
وبعد فالعلوم من أعظمهـــــــا .. فائدة فكان من أهـــــــــــــــــمها
علم عمود نسب المـــــــختار .. ثم عمود نسب الأنـــــــــــــصار
إذ منهما تشعب الإيــــــــمان .. والنور والحكمة والفــــــــــرقان
لولاهما ما كان للكون ثـــمر .. نعم ولا كان ولا كــــــــان بشر
علم به يبحث عن نور النبي .. إذ هو في منصبه المــــــــــهذب
وبعد أن كان وعن صحابته  .. وأهل مكة وأهل طـــــــــــــابته 
ولمحبة المؤلفين لرسول الله صلى الله عليه ونيتهما نشر محبته بين الناس وضع الله القبول على النظمين وشرحيهما بصفة لم تشهدها مؤلفات الموريتانيين قبل ..
يقول العلامة سيلوم بن المزروف مشيدا:
قبوله لم يحظ أي نــــــــــظم .. في أرضنا بمثله في عــــــــــــــــلمي 
وذلك استجابة لدعائه رحمه الله آمين :– 
والله أسأل سداد النظـــــــــر .. وعصمة الخاطر من ذا الـــخطر 
وأن يكون لي ولا عـــــــليا  ..  وعند كل أحد مــــــــــــــرضيا
وأن يكون للثواب قــــانصا  ..  لوجهه عز وجل خـــــــــــالصا
مما يلبس به إبــــــــــــليس  ..  وللهوى في طيه تـــــــــــــدليس
بجاه أفضل الـــــورى محمد   ..  صلى عليه الله طــــــول الأمد
فتلقفهما الناس شرقا وغربا في عموم بلاد الله الواسعة داخل القطر بالحفظ والنسخ
والتوشيح كما فعل العلامة / محمد بن عبدم ت 1233 هـ ، والشرح كما فعل العلامة / حمادن بن ألمين ت 1256 هـ وهما معاصران للمؤلف .
وخارج القطر نجد العلامة / أحمد المالكي المغربي الشنقيطي (1) يجيز شيخ الإسلام (المفتي العام للخلافة العثمانية) / عارف حكمت في هذه المنظومة في جملة العلوم التي أجازه فيها سنة 1235 هـ (2) أي بعد سبع وعشرين سنة من وفاة المؤلف:
وها أنا الشنقيطي الحقير .. وفى العلوم باعه قــــصير 
أجزت عارفا كما أجزت .. مؤرخا وموعدي أنجزت 
كما أجاز بها شيخ الإسلام / عارف حكمت علامة العراق ومفسره وأديبه ومؤرخه / أبا الثناء محمود شكري الألوسي الجد سنة 1262 هـ لتنتشر في العراق. 
وهذا يذكرنا بدعاء خليل بن إسحاق في مقدمة المختصر : 
(والله أسأل أن ينفع به من كتبه أو قرأه أو حصله أو سعى في شيء منه).
وبقول مالك رضي الله عنه عندما ذكروا له أن ابن الماجشون سبقه بتأليف موطإ: (ما كان لله بقي يعنى كتابه الموطأ). 
ورغم أن الكثير من أعيان العلماء – في المشرق والمغرب - وضعوا عليهما الشروح والحواشي والطرر وزادوا في الأصلين ما يسمى (الاحمرار) بقي النظمان بشرحيهما في غاية الاستقلال، كما اختصا بوفرة المعلومة المختصرة المنتقاة من أهم المصادر مما جعل طلبة العلم يكتفون بهما عن غيرهما .
لم تلازمهما هذه الشروح ولا الزيادات ولا الطرر ولم تصبح من ضروريات تدريسهما كما أصبح الحال مع لامية الأفعال واحمرار العلامة ابن زين، وألفية ابن مالك واحمرار العلامة ابن بونه.
كما أن هذه الزيادات لم تملأ فراغا ولم تسد خللا ولم تأت بتصويب، فالناظم رحمة الله عليه لكثرة اطلاعه نبه بقوله:
وكثرة الخلاف في ذا الــــفن .. معلومة فمل لحسن الــــــــــظن 
وقوله :
ومن يجد خلاف ما ذكـــرته .. فليتئد لعل ما ذكــــــــــــــــرته 
في غير ما طالعه إذ الطرق .. لا سيما في الفن ذا قد تفترق
ومن يكن مستوعبا مثلي ذكر .. مشتهرا منها وغير ما اشتهر
إلى أن هناك غير ما ذكر، وذلك بسبب ميله للاختصار، وهو ما أشار له بقوله:
فهاك منها نبذة ليست تـــــــمل .. ولم تكن بمعظم القصد تــخل ..
وقوله :
وشد ما اجترأت في ذا الهدف .. إذ لم أكن أهلا لصوغ النتف
لكن تطفلت على بركتــــــــه .. وجاهه بنظم بعض سيرتـــــه
النتف كما هو معروف القليل من الشيء، وهي لفظة تستعمل على سبيل الاستحسان.
وكما مال الناظم في الأصل إلى الاختصار وشحن البيت الواحد بالكثير من المعلومات بلغة جزلة رائعة حاكاه الشارح نفس الهدف، ولا غرابة فهو ابن أخيه وتلميذه لذا يصدق عليه المثل: (ومن يشابه أبه فما ظلم).
هذا الاختصار والمعلومات المضغوطة في البيت الواحد وأحيانا في الشطر هما ما دفع البعض من مشاهير العلماء وأعيانهم إلى محاولة الزيادة في النص بما يعرف بالاحمرار أحيانا لإضافة معلومة وأحيانا أخرى لتبسيط كلام الناظم وتقريبه للمتلقي وهذا الأخير هو ما أشار إليه العلامة المربي/ المختار بن باب بن حمدي في مقدمة احمراره للغزوات :
وقد وجدت عدة من الــــــكتب .. نظما ونثرا قد تفي بما أحب
أحسنها في الغزوات ما اشتهر .. للبدوي لكنه فيه اخــــــــتصر
هممت أن أصوغ ما يبسط ما .. رحمه الله تعالى نــــــــــــظما
وقد سألت خالي/ محمد اطفيل بن باليل – حفظه الله ورعاه آمين – وقد أخذ النظمين بشرحيهما من مصدرهما (محظرة لفريوه العامرة حفظها الله ورعاها آمين) عن السر في اختصار وسهولة حفظ النظمين وحفظ شرح حمادن عليهما خلافا لمطولات المتأخرين .. فقال : إنهما – أحمد البدوي وحمادن – موسوعتان يكتبان من ذاكرتيهما وغيرهما ينقل من الكتب.  
ولعل سبب اختصار المؤلف - الذى أشار إليه الشراح - هو تمكنه الشديد والمنقطع النظير من اللغة و علومها وآدابها ومستواه الموسوعي في الفن المطروق وفي جميع الفنون، زد على ذلك طاعة النظم له ما دفع العلماء شرقا وغربا للتنويه بالمنظومتين إعجابا وتزكية.
يقول العلامة / محمد بشير الإبراهيمي بعد اطلاعه على نظمي عمود النسب والغزوات للبدوي – أخذهما وديوان الستي عن الشيخ / محمد عبد الله ولد زيدان - : وما رأيت قوما طاع لهم الرجز وانقاد كعلماء شنقيط مع السهولة عليهم في النظم.
في مقال له منشور في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1923 صفحة 105 إلى 110 يقول أشهر لغويي العراق/ بهجت الأثري ت 1996 م : وكثير منها ألغاز – يقصد منظومة عمود النسب - ومعميات لا يكاد يهتدي إلى حلها والوقوف على المراد منها إلا من كان له وقوف تام واطلاع واسع في التاريخ والأدب والأنساب وأحوال المشاهير على اختلاف أصنافهم وتشعب غصونهم ، وهذا ما دفع أستاذنا العيلم الشيخ/ محمود شكري الألوسي – حفظه الله – إلى شرحها وإيضاح مجملاتها وحل رموزها وكشف اللثام عن وجوه مخدراتها وإزالة غياهب الظلام عن فرائد فوائدها ، ويختم بالثناء عليها بقوله : أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون ..؟ .. إن هذا لهو الفصل المبين .
ويقول نقلا عن علامة المشرق وأديبه و نسابته / محمود شكري الألوسي الحفيد ت 1925م في كتابه الموسوم : شرح منظومة عمود النسب وأخبار أخيار سلف العرب من ذوي الحسب :
إني وجدت منظومة بديعة وأرجوزة كأنها عقود جمان ، تتحلى بفرائد فوائدها الأفواه والآذان ، لم يسبق ناظمها إلى مثلها في عملها وعلمها.
غير أن كثيرا من أبياتها كالألغاز ، ولإيجازها كادت تكون آيات إعجاز ، غير أنها بكر لم تزف لأحد من ذوي العرفان ، وعواني مسائلها لم يطمثهن إنس ولا جان ، ولم يكن لها شرح يوضح تلك المهملات ، ويبين هاتيك الرموز والإشارات ، فهي درة لم تثقب ، وغرة من غرر الأدب ، لم تزل تتستر عن العيون وتحجب ، فلذلك حرم من اجتناء ثمراتها الطالبون من أفنان فنون الأدب .
وأظن – والله تعالى أعلم – أنها كانت السبب في حصول بحثه (بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب) على جائزة لجنة الألسنية الشرقية في استوكهولم سنة 1883 م 
وعند ما وقف العلامة/ أحمد حسن المشاط ت 1979 م - أثناء شرحه لنظم الغزوات (أخذه وعمود النسب عن العلامة / محمد عبد الله ولد زيدان) - على قول العلامة المغربي المحدث/ محمد عبد الحي الكتاني يطري منظومة العلامة/ محمد بن عيسى بن أصبغ الأزدي ت 620 هـ  (الدرة السنية في المعالم السنية) التي يقول في مقدمتها :-
وإن أولى ما تحلى الـــــمسلم .. بعد كتاب الله أو يــــــــــــــــــــــــقدم 
علم بأيـــــــــــــام رسول الله .. من لدن النشء إلى الــــــــــــــــتناهي 
وحفظ ما يحق ألا يــــــجهلا .. من أمره وحاله مـــــــــــــــــــــفصلا  
فلتقتضب من ذاك ما لا يسع .. في الحق أن يــــــــجهل ذاك الأورع
وما يكون شرف الـــمجالس .. جلا العلا للحافظ الـــــــــــــــــمدارس
تعلو به الرتبة عن يـــــــقين .. في شرف الدنيا وحكم الـــــــــــــــدين
من أعجب ما ألف في الإسلام – 
قال : ومنظومتنا هذه – يعنى الغزوات - هي فصل الخطاب والآية العجاب ، لا تدع شاذة ولا فاذة من عيون المغازي إلا أتت عليها بأبدع أسلوب وأسلس تعبير ، فهي الفريدة في بابها الممتعة لطلابها .
وحاصل القول أن هذين الرجلين خدما الإسلام والمسلمين بإحياء عمود نسب أفضل الخليقة – وأنصاره - عليه أفضل الصلاة والسلام ، ونشرا سيرته العطرة – عليه أفضل الصلاة والسلام – حتى عاشها الناس كأنهم يرونها رأي العين فلانت القلوب ودمعت الأعين : خدمته صلى عــــليه الله .. بنشر ما من نشرهم طواه
مر الزمان وجهالة بنيه .. لعله يرحمني بمــــــا أشيه
نسأل الله لهما الرحمة والغفران وجزاهما عنا خير الجزاء .. آمين.
--------------------------------------------
* مهتم بالتراث 
(1) لم أجد له ترجمة ولا تعريفا 
(2) غرائب الاغتراب للألوسي

تصفح أيضا...