مفهوم الديمين (الحلقة الثالثة) / الحسين ولد محنض

خميس, 05/12/2019 - 11:24

((ومما استحسن أولاد ديمان واحتفوا به أيضا رد محمد بن أحمد بن الميداح دمبه علما على سؤال لأحد الصحفيين في برنامج تلفزيوني عن "طلعة" (=مقطوعة من الشعر الحساني) له في الوصية يوصي فيها فتى يدعى أحمد: «إن كان من يعني في الوصية هو ابنه أحمد؟ فأجابه [محمد بن أحمد بن الميداح] بأن من المعتاد ألا يوصي أحد أحدا إلا إذا كان "يسمعلو لكلام" [=يطيعه فيما يأمره به]()»، مشيرا بذلك بطريقة متديمنة إلى أنه ابنه.

ومنه أن «حبيب (=بداح) بن محفوظ حضر -وأنا معه- مؤتمرا صحفيا للأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان في انواكشوط، وكان كوفي عنان يتكلم عن قضية الصحراء فقال إنها متشعبة ولها أجنحة متعددة. ولما انتهى من حديثه فتح المجال للأسئلة قائلا: إنه على الصحفي ألا يطرح إلا سؤالا واحدا، فطرح حبيب عدة أسئلة، فقال له كوفي عنان: ألم أقل بأن لكل صحفي سؤالا واحدا فقط؟، فقال له حبيب: هذا سؤال واحد لكنه متشعب وله أجنحة متعددة(). يريد أنه يشبه قضية الصحراء في ذلك، ففهم كوفي عنان تلميح حبيب وأعجبته سرعة بديهته وحذاقته فأجابه عن جميع أسئلته».

والخلاصة أن الديمين في تجلياته المختلفة الكلية أو الجزئية السلوكية أو الكلامية موجود بمستويات معينة في كل المنطقة، بل يمكن القول أيضا إنه موجود في جميع القبائل والمجتمعات بدرجات متفاوتة، لأنه في جانبه السلوكي عبارة عن مجموعة أخلاق يمكن أن توجد –أو يوجد بعضها- لدى كل مجتمع، بينما هو في جانبه الكلامي من الأفعال اللغوية المألوفة في جميع اللغات، فهو يطابق في بعض نواحيه الكلام المنطوي على وجه من أوجه التورية أو الكناية أو التعريض أو التلميح المعروف في جميع اللغات، ويطلق عليه البعض مصطلح التسميل أو مصطلح التلطف الذي يعرف بأنه الترفق في العبارة والاحتيال فيها لبلوغ المقصود، أو تحسين العبارة والتلميح إلى الأمور، كما أنه يطابق في بعضها الكلام البليغ الجامع لمعان كثيرة بألفاظ قليلة، أو الكلام المعبر الدال على حضور البديهة وفصاحة اللسان، أو الكلام المفحم أو المسكت، أو الحكيم.

لكن وجوده بهذه الطريقة الجامعة المشتملة على منظومة قيمية كلامية وسلوكية واسعة، واستمراره على مدى قرون عديدة ارتبط بأولاد ديمان أكثر من غيرهم، حتى أصبح الديمين بالنسبة إليهم هوية لا مجرد كلام أو سلوك، بينما أصبح بالنسبة إلى غيرهم موضوعا يلفت الانتباه، ويثير الفضول، بسبب خصوصياته المتنوعة والمتعددة.
هذه الخصوصيات التي عبر عن بعضها محمد بن أحمد بن الميداح في مقاله المعنون بـ"أولاد ديمان" [ترجمة انيفرار. أورگ] بقوله:

«لقد قيل الكثير، منه الصادق ومنه دون ذلك، عن هؤلاء القوم الذين يسكنون منطقة إيگيدي، والذين يوحي سلوكهم وكلامهم ومظهرهم بأنهم عنصر من طراز خاص. ومع ذلك فهم ليسوا عنصرا من طراز خاص. إنهم رجال بسطاء مثلي ومثلك. نعم لهم خصوصياتهم الثقافية، وهي خصوصيات يتطلب فك معماها مجهودا لا بأس به من دقة الملاحظة والصبر. ولعلنا لو استنتجنا من ذلك أنهم منغلقون على أنفسهم نكون قد قطعنا خطوات لا يمكن أن يتجاوزها إلا من لا يتوفر على أدنى نصيب من قبول الآخر. ولا يظنن ظان أني نصبت هنا نفسي مدافعا عن أولاد ديمان، وذلك لسبب بسيط هو أنهم لا يولون أية أهمية لما يعتقده الناس بشأنهم، سواء عليهم أفهمهم الآخرون أم لم يفهموهم ذلك هو أدنى انشغالاتهم..
إنهم لا يريدون تغيير العالم وعلى العالم ألا يحاول تغييرهم. إنهم راضون عن وضعيتهم، وبالرغم من بساطتهم الأسطورية فإنهم معتزون بقيمهم الثقافية. ذلك شأن يخصهم. إنهم دائما يوهمون من يجادلهم في أمر من الأمور أنه هو المحق، وأنه هو المثال والقدوة بالنسبة لهم.. فلا ضير بعد ذلك في أن يقع في الفخ، فيبدأ يستعرض معارفه الواسعة أمام جماعة من الناس يستمعون إليه بانتباه! في الحقيقة إنه يضيع وقته ومصداقيته.
إن أولاد ديمان لا يحبون التبجح بنشر المعارف، ولا يستعملون أبدا ضمير الواحد المتكلم، ولا يؤمنون بالمآثر التي يدعيها من يقومون أنفسهم ويزكونها.
إن هذه الطائفة من الناس تصنف عندهم تلقائيا في الصنف المَقيت المسمى بإيتشگي (وهي كلمة أمازيغية تساوي تقريبا: أهل الخفة والتهور وعدم النضج)، وبكلمة واحدة إنهم أشخاص مغايرون. ولا يحمل ذلك أي معنى سلبي، وإنما يعني أنهم ليسوا ديمانيين فقط، وقد لا يكون ذلك عيبا ولكنه على كل حال معوق.
كلا! إن أولاد ديمان لا يرون أنفسهم أسمى من غيرهم، ولكنهم يتحملون على طريقتهم ما يفرق بينهم وبين غيرهم، وهذا حقهم الطبيعي.. وقد تبدو هذه الحقيقة معقدة إن لم تكن متناقضة، ومع ذلك فهي ليست كذلك...()».

ويمكننا أن نحصر الديمين من حيث تمظهراته الأساسية في ثلاثة أوجه هي: الكلام، والطبع، والعادات: الكلام في بعديه السوسيولوجي والتداولي، والطبع في مستوييه التعبيري والسلوكي، والعادات في وجهيها الاجتماعي والأنتروبولوجي. ولذلك فستكون دراستنا للديمين من خلال هذه الأوجه الثلاثة)).

أكتفي بهذا التمهيد عن تقديم الدراسة ريثما يصل الكتاب إلى الأسواق.

 

تصفح أيضا...