الحريات العامة في موريتانيا إلى أين؟ / الدكتور عبدالله ولد حمدي*

اثنين, 22/04/2019 - 21:42

تقاس عظمة الشعوب اليوم بهامش الحرية المدنية والسياسية فيها، فبذلك تتدعم الروابط بين مكونات المجتمع، ويتضاعف الإنتاج، وتضبط الحدود بين الأفراد فتذوب الفوارق.

إن موريتانيا الجديدة ليست بدعا من دول المنطقة الطامحة الى تأسيس دولة المواطنة القائمة على الحرية والعدالة، فهي تعيش هذه الأيام حالة فريدة من الاستقطاب؛ نتيجة للانتخابات الرئاسية القادمة، الأمر الذي جعل موضوع الحريات المدنية والسياسية أكثر المواضيع إلحاحا خصوصا في ظل تنافس عدد مقدر من المرشحين من أطر مرجعية مختلفة.

لقد أعاد المناخ الجديد الموضوع إلى الواجهة في حوارات الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، فانقسم القوم إلى فريقين متمايزين: فريق من النشطاء الحقوقيين يعتقدون جازمين أن هناك تقييدا للحريات وتكميما للأفواه، بينما يرى فريق آخر أن موريتانيا من أحسن الدول الإفريقية والعربية في مجال الحريات. 

يستدل الفريق الأول بتقارير محلية، صادرة عن مؤسسة المعارضة الديمقراطية، تؤكد استعمال القوة المفرطة ضد المحتجين على التعديلات الدستورية وحراك أعضاء مجلس الشيوخ، وببيانات عديدة لمنتدى المعارضة، تحدثت عن التضييق على المخالفين في الرأي حسب تلك البيانات. هذا إضافة إلى تقارير دولية لمنظمة "هيومن رايتس ووتش"، ترصد فيها - ما زعمت أنها - مخالفات صريحة لحقوق الإنسان مثل: سجن بيرام ولد الداه ولد اعبيدي في قضايا الرق، وقضية محمد الشيخ ولد امخيطير في الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التمثيل لا الحصر.

إنه لا أحد يجادل في أهمية تدعيم الحريات واحترام الرأي الآخر، مهما كان مصدره، لكن المبالغة في رسم صورة قاتمة للبلد بدعوى حقوق الإنسان أمر مرفوض، خصوصا إذا كانت الصورة تحمل بصمات خارجية، لأننا نعيش في الغرب منذ أكثر من عقدين من الزمن، ونعلم علم اليقين جوانب ذلك الأمر المتعددة، وكيف يستغله البعض للإساءة لدولهم ومجتمعاتهم مقابل هبات مالية.

إن المتابع للشأن الموريتاني يمكن أن يخرج بالملاحظات التالية حول أهم الإشكالات المثارة حول موضوع بشأن الحريات:

1- على المستوى النظري يملك البلد دستورا حديثا، أقر بوضوح سنة 1991 مجمل الحريات العامة، سواء في مجال تكوين الأحزاب أو قانون الصحافة. وقد نتج عن ذلك ترخيصٌ لعدد كبير من الأحزاب، قلص مؤخرا عددها، وكذلك رخّص لعدد كبير من الصحف الورقية والمواقع الإلكترونية، مما أوجد جَوًّا ملائما للحوار، رغم النواقص التي شابته بعد ذلك. وقد شكلت العشرية الأخيرة فترة متميزة في دعم الحريات والتناوب السلمي على السلطة، حيث خَلَتْ السجون من المعتقلين السياسيين، وتناقص الرقيب الإعلامي، وبدأت الصحافة تتناول كل الملفات دون خوف من متابعة - والأمثلة على ذلك كثيرة - بدءاً من رئيس الجمهورية وانتهاء بالوزراء ومديري المؤسسات، وهذا أمر تتميز به موريتانيا عن بعض دول المنطقة، التي تكمم فيها الأفواه، وتصادر الحريات، ويعاقب بالسجن أي منتقد للنظام ورموزه.

والجدير بالذكر أن البلد مُصَنَّفٌ من البلدان المتقدمة في حرية الصحافة في المنطقة، وهو أمر نفخر به. وهنا ننبه إلى وجود ضمانات وفرتها الدولة، ستصون الحريات العامة وتشعر الفاعلين بأهمية العملية الديمقراطية بشكل عام منها: مشاركة مراقبين دوليين، وممثلين عن الأحزاب السياسية، فضلا عن منح المعارضة مقاعد في المجلس الدستوري، واللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات، ضمانا للشفافية والحياد. 

2- قضايا العبودية: تعتبر إشكالات الرق من أكبر مداخل نشطاء دعاة حقوق الانسان في هذا الملف، وهنا أريد أن أذكر قصة وقعت لي شخصيا في هذا الإطار:

قبل فترة عرف زميلي في الجامعة أني سأسافر في عطلة إلى موريتانيا، فطلب منى أن أزوره في مكتبه لأمر مهم يريد أن يكلفني به في موريتانيا فاستغربت الأمر، لأنه لا شيء يربطه بالبلد سوى دين الإسلام الذي اعْتَنَقَهُ قبل سنوات. ذكر لي أن عليه كفارة من رمضان الماضي، ويريد أن يعتق عبدا أو أَمَةً، وقدم لي الفلوس لأقوم بالمهمة!

حاولت أن أقنعه بأن الرق لم يعد موجودا، وأن القانون في البلد يجرمه، لكن دون جدوى، فهو يعرف موقع مكان سوق النخاسة في انواكشوط، ويعرف أناسا ادخلوا السرور على أُسَرٍ موريتانية بتحريرها وعتقها!

هذه واحدة من قصص كثيرة للمتاجرين بأوطانهم في الغرب والخليج العربي. إن هذه الظاهرة ينبغي أن تدرس بعناية لمعرفة مصادرها واستئصالها، إنه آن الأوان لنغير "محتوى الإنترنت" الذي يعطى صورة سلبية عن بلادنا، ونبين أن قضايا العبودية لم تعد موجودة في موريتانيا، وإنما هناك مخلفات للرق ينبغي أن تُحَارَبَ بجدية عن طريق إعمار مناطق الفئات المحدودة الدخل ببناء مستشفيات ومدارس وإعطاء امتيازات لأبنائهم لمتابعة الدراسة في الجامعات والمدارس المهنية.

هذا هو العلاج الهادئ إذا أردنا أن نطوي ملف الرق، ونجعله في خبر كان، ونفوت الفرصة على دعاة الفتنة.

وحسب معلوماتي المتواضعة فإن هناك جهودا مبذولة في البلد في ذلك السياق، لكنها تتطلب المتابعة والتطوير لنصل إلى الهدف المنشود، وهو إقامة دولة المواطنة المتصالحة مع ذاتها، البعيدة عن المحاصصة المدمرة في بلد متعدد الأعراق والأقليات.

3- قضايا العنصرية في البلد: حيث يعتقد البعض أنها بوابة لتضييق الحريات، وهو أمر لا ننكر حصوله في السابق، لكن ذلك التقييد لم يكن مستهدفا لِمُكَوّن معين بسبب عرقه أو لون بشرته، وإنما كان استهدفا لأي صوت يدعو للعدل والمساواة في الفرص. وقد تضرر من ذلك الجو الاستبدادي جهات وأعراق مختلفة، حيث امتلأت السجون، وحورب أي ناشط في زرقه إما بتجريده من وظيفته أو بسجنه، وتمت كذلك مصادرة بعض ممتلكات مؤسسات المجتمع المدني إلغاء للحريات وإمعانا في الإهانة.

وتجدر الإشارة إلى أن العشرية الأخيرة شكلت استثناء في تاريخ البلد المعاصر، بما استحدثت من قوانين ومحاكم من أجل حماية الحريات، ومحاربة كل أنواع التمييز في مجتمعنا، حيث أصبحت الأقليات ممثلة في كل الدوائر الحكومية من حكومة وبرلمان ومجالس جهوية، الأمر الذي دعم اللحمة الاجتماعية، وعمق الروابط، وضاعف الإنتاجية في البلد.    

4- التناوب السلمي على السلطة: وفق مقررات الدستور: يعتبر هذا المبدأ من أهم الأسس التي تساعد على ترسيخ الممارسة الديمقراطية في أي بلد، وهو ما أدركه السيد الرئيس محمد ولد عبد العزيز، فقرر عدم الترشح لمأمورية ثالثة، رغم تمتعه بصحة جيدة بدنيا وعقليا، ورغم توفر شروطها من أغلبية برلمانية مريحة وحاشية ضاغطة.

إن العالم سيتذكر دائما هذا الموقف النادر، وسيكون درسا بليغا - ليس لموريتانيا فحسب - بل للعالم العربي والإسلامي، لقد انسحب الرجل من حَلَبَةِ المنافسة، مفسحا المجال لرفيقه مرشح الإجماع الوطني محمد ولد الغزواني لمواصلة مسيرة البناء، الذي أكد في خطاب مقاطعة "بنشاب" أنه يطلب الدعم في هذه المنافسة الانتخابية، لكنه يدعو في نفس الوقت إلى الشفافية وحياد الإدارة، مما يوحي باحترامه لخيارات هذا الشعب، وطموحه لخلق دولة العقل القائمة على العدل بين جميع مكونات المجتمع.

5- مؤسسات المجتمع المدني: يزعم بعض الناشطين أن هناك تضييقا على النقابات والاتحادات الطلابية والنوادي الثقافية والمعاهد العلمية، وهو أمر مبالغ فيه، لأنه حسب علمي فإن النقابات تنشط بحرية في البلد، فهي تنظم الإضرابات، وتحاور الدولة وأرباب العمل دون مضايقة، وهذا هو حال الاتحادات الطلابية، كما أن معظم النوادي والمعاهد العلمية تمارس عملها بحرية باستثناء حالات خاصة.

وخلاصة القول إن موريتانيا قد خَطَتْ خطوات متقدمة في تدعيم الحريات، مما يتطلب المحافظة على هذه المكتسبات وتطويرها، وهو ما تعهد به مرشح الإجماع الوطني في مناسبات عديدة، حيث تعهد بإقامة دولة المواطنة، المؤسَّسَة على تدعيم الحريات، وترسيخ قواعد المنافسة الإيجابية؛ لبناء نظام ديمقراطي، يشعر فيه المواطن بالأمن والاستقرار، ويرى فيه الكل ذاته دون تمييز.

والسلام عليكم ورحمة الله.

*مدير مركز الضياء الكندي للدراسات العربية.

 

 

تصفح أيضا...