الكنتي يكتب : ولد ابريد الليل.. والشعور بالمرارة...

جمعة, 19/04/2019 - 11:22

ليس الترحال السياسي عيبا، حين يمارسه متطلعون إلى وظائف انتخابية لا يجاوز أفقهم السياسي مدة مأمورياتها، أو أحزاب تختزل في أشخاص، أو تحمل في حقائب.. لكن حين تمارسه، بوتيرة متسارعة، "مجموعة رأي سياسي" ومذهب عقدي فإن الأمر يستحق نقاشا هادئا للتبرير الذي قدمه "المرشد" وركنت إليه الجماعة...
اختار محمد يحظيه وسيلة اتصال تناسب رأيه السياسي الجديد؛ الحسانية ومكروفون تواصل، وهو الذي دأب من قبل على التعبير عن "فكره" بلغة المستعمر، تاركا مهمة الترجمة إلى لغة "الأمة الواحدة" للمناضلين... وربما تهيأ بذلك لدور مرشد عوام تواصل، بعد أن قضى عقودا يحاول التفكير لطليعة الحزب بتوسط الأجنبي...
أهم ما يميز المرشح الذي انضافت إليه "مجموعة الرأي السياسي" هو أنه "شخص موثوق به"؛ (شخص مفلوش مكرُ)، حسب قول "المرشد"... يقال إن من انخرط في العمل السري فترة من حياته، يموت وهو يلتفت خلفه. وليس من الغريب أن يتوجس محمد يحظيه من المكر والخديعة وهو الذي سلخ عقودا من عمره في سراديب الحركات السرية، أو دهاليز مطبخ السلطة... فقد كان في قلب الصراع بين الجناح السياسي وتنظيم المثنى داخل الجيش. صراع انتهى بالوشاية بتنظيم المثنى بعد سنوات من المكر والخداع... يقول محمد سعيد ولد الحسين، في مذكراته؛ رحلتي في الجغرافيا والسياسة.. "ما حدث ل "المثنى" كان مؤامرة." "لقد كانت وراء ذلك الاجراء أياد خفية من داخل الهيئة السياسية القائدة، مهدت لتلك الضربة وساعدت على تمريرها بالتفاهم مع العقيد معاوية ولد سيد أحمد ولد الطايع الذي صارح بعض من لقي منهم بضرورة حل التنظيم العسكري كشرط أساسي للتفاهم معهم سياسيا." (ص:148، ط1/2015). يستدرك محمد سعيد.."لا أريد أن أعين أحدا باسمه رغم معرفتي لكل ما جرى." (148)، لكنه يتحلل من هذا الالتزام رويدا رويدا، مع تصاعد "شعوره بالمرارة"..."إذا كان في التنظيم خلل ففتش عن الرأس."(150). لم يضيع محمد سعيد وقتا طويلا في التفتيش، فهو المسؤول الأول عن الأمن في التنظيم، لتظهر الأسماء في قاعة المحكمة.. "... وكلما نفيت له أمرا [رئيس المحكمة] يستدعي محمد يحظيه ولد ابريد الليل فيؤكد أنني أنا المسؤول الوحيد عن الجناح العسكري... فقال لي [رئيس المحكمة] إن ولد ابريد الليل اعترف بأنك مسؤول عن التنظيم العسكري، فقلت له اسأله مرة أخرى، فناداه فاعترف علي، وكان كلما سأله سؤالا يتهمني فيه بأمر؛ يجيب ذلك صحيح.. ذلك في علمي،..."(156). وتصدر الأحكام فينال "المرشد" أخفها؛ "سنتان نافذتان. وقد حول الستة الأوائل إلى سجن تيشيت وحول ولد ابريد الليل وحده إلى كيهيدي."(157)، ولعل القارئ الكريم يتذكر برامج حماية الشهود في محاكمات "كوزانوسترا"...
فلا غرو إن بحث "زعيم" مر بكل هذه التجارب الممضة، عن (شخص مفلوش مكرو)، شخص يوثق فيه ليتم التآمر عليه... أما الصفات الأخرى التي أضفيت على المرشح فهي، في عرف التنظيمات السرية، من اللزوميات...
في نقده التبريري يستشهد محمد يحظيه بوزير فرنسي (أَلْفيه وحده...) استقال محتجا على اتخاذ قرار خارج مجلس الوزراء! وقد كان محمد يحظيه وزيرا (بدل أتعاب؟) في حكومة العقيد معاوية الذي لم يشتهر بمراعاة النظم والقوانين؛ فقد حكم ما يقارب عقدا كاملا بالمراسيم! وإذا كان مجلس وزرائنا يخصص وقتا لمناقشة "بذور شجرة"، فذلك دليل على سعة النقاش فيه وشموله كافة القضايا التي قد يراها المهتم بمصالح الإبل تافهة...
يصب محمد يحظيه جام غضبه على الأنظمة العسكرية وهو منخرط في تنظيم دولي لم يصل السلطة إلا عن طريق انقلاب! صحيح أنه ضحى بجناحه العسكري عندنا، لكن ذلك تم من أجل عيون نظام عسكري، وهو ما يعيبه محمد سعيد على قيادته السياسية.. "إذا كان القادة الأكفاء موجودين.. فكيف يكونون وراء أو حلفاء كل انقلاب؟ هل هذا معقول؟ ماذا ننقم من "التيفاية" والسماسرة..."(150). وقد كان محمد يحظيه على رأس "المبادرين" بتأييد الحركة التصحيحية التي قادها اللواء محمد ولد عبد العزيز. فهل كان مرغما على تلك "المبادرة"؟ أم كانت "حركة بهلوانية"؟ وأين كان قلبه ولسانه من سيدي ومحمد؟ أما لسانه فكانت حصائده لمحمد ونظامه.. " زد على ذلك كله، أن الرئيس والنظامَ نفسه، هو رمز لمؤسسة عسكرية طالما قدَّرناها واعتبرناها بمثابة العمود الفقري للكيان الموريتاني؛ مع يقيننا التام بأنه لا يوجد لها بديل، يُنتظر منه القيام بتلك المهمة الوجودية."(مقال منشور)، ولم يؤمر محمد بتفتيش قلوب الناس... ولعل الألسنة، في تقلبها، كالقلوب...
هذا المحمد، الذي يتم التعريض به اليوم، وصنوه، سمع غير هذا أثناء عشرية النماء... فقد كانت مقالات محمد يحظيه، في أصلها الفرنسي، وترجمتها العربية، تتغزل بشخصه.." أما الجانب الشخصيُّ والجاذبيةُ وما يشبهها، فإنه يمكن لشيء من ذلك أن يُلتمس في بساطة وعفوية الخطاب والأسلوب والشخصية…"(نفس المقال)، وتنبهر بسلوكه.. " العامل الخامس، هو ما أظهره الرئيس عزيز من عدم مسايرة تلك الجهات الانتهازية والمتمصلحة على الساحة السياسية والمالية والإدارية والاجتماعية…"(ن.م.). ويشمل محمد يحظيه، بحديثه العاطفي النظام الذي قلاه اليوم.. " من العوامل الأساسية التي جذبتنا – وغيرنا كثير – إلى تأييد ومساندة النظام الحالي، تلك الشعارات الجميلة التي رفعها أولَ مجيئه، مثل: شعار محاربة الفساد، الذي طرحه الرئيس محمد ولد عبد العزيز بلهجة واضحة وبسيطة وقوية، لم نعَهدها قبله في هذه البلاد…"(ن.م.). وانتهى الانجذاب، كما تنتهي الروايات الشرقية، والأفلام الهندية.. " أما نحن، بوصفنا أصحابَ رؤية سياسية متواضعة، وبوصفنا أشخاصا أسلموا زمام أمرهم، منذ الوهلة الأولى، إلى النظام الحاكم..."(ن.م.).غالبا ما تنتهي قصص الحب الجميل بمأساة هجر أو خيانة، أو طلاق بالثلاث. ويبدو أن الخيار الأخير كان وراء "قصتنا الجميلة"؛ فقد كان حبل الوصل ممدودا بين محمد يحظيه والنظام على مدى ثلاث مأموريات قضاها رئيسا لمجلس إدارة، ثم "عادت الروح" بعد "عودة الوعي"(الإشارة إلى كتابي توفيق الحكيم)، ليكتشف، بعد تعذر مأمورية رابعة، أن الوطن في غيبوبة، ويحتاج إلى "عملية قلب مفتوح" لحب المعارضة التي وصفها، أيام وصل النظام بقوله.. " إن المعارضة السياسية الحالية، باختصار شديد وبكل موضوعية، ليس فيها ما يجذب أحدا أو يبعث أملا أو يشكِّل بديلا." سبحان مقلب القلوب، المغلقة والمفتوحة!!
لعل في كل ما ذهبنا إليه شططا؛ فكل هذه الجعجعة ليست سوى إعادة انتشار لتنظيم عقائدي يلملم أوصاله ليوزعها على خريطة سياسية يتهجاها بعد عقود تحت الأرض وأخرى في التيه، فكلف قيادته التاريخية بمراقبة الإخوان، وجناحه السياسي باستغلال إيرا، وقطاعه غير المصنف باختراقنا... وربما كان الأمر، حين يتعلق بمحمد يحظيه، أهون من ذلك بكثير، فقد " تعمد[في تصريحه] استعراضا مفصلا لتجربته العمرية والسياسية الغنية بالمرارات." كما يقول أحد شراحه المأذونين؛ محمد الكوري ولد العربي، وفي هذه الحال فإن خير من يؤوي إليه، بعد بينونة الثلاث، مرشح "يشعر بالمرارة"...

تصفح أيضا...