القدس كما زرتها فـي عام فائت! (الحلقة 1/2) / عُبيد ولد اميجن

جمعة, 22/12/2017 - 00:49
 
بقلـم عبيد اميجن (اعلامي ورئيس منتدى الأواصر)
يزور القدس سنويا 3 ملايين سائح من بينهم 5% فقط عرب أو مسلمون (أتراك، ماليزيين أو أندنوسيين..) أما الآخرون فهـم غالبا مجموعات يتم استقطابها وتسخيرها من قبل الدولة العبرية لأهداف دعائية وسياسية فالأدلاء السياحيين الإسرائيليين يحرضون على زيارة المزارات الدينية اليهودية بما في ذلك المسجد الأقصـى الذي يقدم لهؤلاء على أنه مسجد أقامه المسلمون على "هيكل سليمان" المزعوم وأن الدليل على ذلك هـو حائط المبكى اسفل المسجد فيسهل توجيه السياح ضد المقدسيين ومنعهم من التواصل مع السكان الأصليين.
وفي نفس الوقت تـزدهر داخل أوساط العالم الإسلامي مزيد من الفتاوى المجنونة التي تمنع على العرب والمسلمين زيارة الأقصـى أو المسجد الإبراهيمي أو كنيسة القيامة بالقـدس وبجانبها المسجد العمري أو كنيسة المهد ببيت لحم حيث انتبذت مريم العذراء طبقا للقصة القرآنية، وكنا على علـم بأنه منذ العام 2012 يحتدم داخل الأوساط الدينية والأيديولوجية جدل لا ينتهي حول ما اذا كانت زيارة القدس والمسجد الأقصى تشكل دعما للفلسطينيين أو تطبيعا مع اليهود؟، هذا فضلاعن  الموانع الاسرائيلية التي أعقبت فشل اتفاق أوسلو والدعايات الغوغائية المرافقـة للصراع، ان من يهتم بالتفاصيل لن ينجز فعلا نضاليا يذكر.   
وفي ظل تعرض المقدسات للتهويد المستمر قبل ان يقتلع منها سكانها وتقام على أديمها المستوطنات العنصرية و المعابـد والملاهي وما يرافق ذلك من اضطهاد وتنكيل بالعزل، ومثل هذه السلوكيات كان الفلسطينيون قد ألفوا الاكليشيهات التقلدية لوقوف اخوتهم العرب والمسلمين الى جانبهم والتي غالبا ما تمر  عبر اصدار وريقات تعاد طباعتها في كل مرة لتتضمن "بيانات الإدانـة والشجب"، إنها كراريس لا تكفي إطعام احدى معزاة خالتي المامية وقـد تفضل عنها عشب آوْكًارْ الأًبْكًـْم!
أما الشعب الفلسطيني فقـد مل تلك الفتاوى والنوازل الفقهية التي يتنازل محرروها عن أرض لا يعرفونها ولم يختبروا عن قرب السياسات الاستيطانية التي حدثني عنها مزارع بدوي من فلسطين فقال إن "الاستيطان صنو للاستعمار لكن ميزته الأساس أنه يتقلع الأرض ومن ثمة يحييها فورا ويمتلكها أبدا!"، بالنسبة للمقدسيين فالأمل الوحيد لتقويض سياسات الاقتلاع يكمن في تواصل المساندة الشعبية وتوسيع قاعدة المؤازرة لمساعـدة الســكان الأصلاء والوقوف إلى جانبهم، هذه الجملـة لم اكن أتوقع أن تتحول إلى شعار يهتف به النشطاء الدوليون خلال مشاركتنا في المظاهرات ضد الجدار العازل بالقرب من قرية بلعين (16 كلمترا من محافظة رام الله والبيرة)، إن هذه القرية تعد بمثابة النموذج الأبرز للمقاومة والصمود فغداة وصولنا كانت القرية على موعد مع احدى المظاهرات والاحتجاجات السلمية مما حتم على الفريق المشاركـة فيها، وفي تلك المحطـة كان علينا اختبار أنياب المواجهة لدى سلطات الاحتلال الاسرائيلي عندما اقترابنا من الجـدار حيث وجهنا بعشرات القنابل المسيلة للدموع والمثيرة للأعصاب في الآن ذاته وقــد تمكن رئيس تحرير روز اليوسف أيمن عبد المجيد من إلتقاط احدى الصور لشخصي في لحظة ما كنت اخالني سوى معتقلا تتبادله سجون الاحتلال، ولكـن لا بأس فقـد كنت حديث عهد بزنازين بلادي!.
كانت دورة القدس تهدف الى اعطــاء الانطباع بأن اتحاد الصحفيين العرب غيــر معنـي كثيرا بدائرة الاستقطاب الكلامي ولا بالموانع الايديلوجية التي لا تنتهي ولا تثمر عن أشياء مفيــدة، بل انها قسمت أصحاب المصلحة الى فسطاطين وتركت الناس يعانون لوحدهم في ظـل الاحتلال حيث تتعـرض المقدسات المسيحية و الاسلامية للتهويد، في هذا الصدد تقرر عقـد دورة القدس والتي أملنا أن نتمكن اثرها من قراءة البيان الختامي من داخل المسجد الأقصى، وهو ما حدث بالفعل؟
تم ايفادي نيابة عن رابطة الصحفيين الموريتانيين (النقابة) وكان بررفقتي الزملاء عبد الله و لًمِينْ وبهذا دخلنا الأراضي الفلسطينية انطلاقا من الأردن التي انعقدت بها بداية الدورة بحضور مناديب الدول العربيـة الأعضاء قبل أن يحمل جلهم حقائبه تجاه رام الله حيث ينعقـد في الواقع المؤتمر والذي يمكـن القول إن بدايته كانت اقرب الى ورشات خصصت لعرض العضلات الخطابية والمزايدات التي لا تنهي، فلطالما تبادل الزملاء على الميكرفون للتأكيـد على مشـاعـر التضامن و الأخـوة والفداء.
تبقى في الذاكــرة المداخلة الحماسية لأحد الزملاء من شمال افريقيا، وكدليل على مهاراته في اطلاق المبادرات فقـد طالب المناديب بإظهار دعمهم للشعب الفلسطيني عبر التبرع بالدم، كانت فكرة غير مسبوقة بل إنها رائعـة بما يكفي لتضج القاعة بالتصفيق دعما لهذا الاتجاه، بل إن كبير المفاوضين الفلسطينيين السيد صائب عريقات، وكان يرأس الجلسـة قـد أمر فورا بإحضار عيادة متنقلة لاستلام الدماء المُتبَرَعِ بها. راقت الفكرة للمشاركين وتحولت سريعا لتصبح واقعا، لكن وجه الطرافـة أن صاحب الفكرة ما كان ليتصور التجاوب الفوري فنزل يبحث عني وكنا على موعد لنتريض بالقرب من مقر الإقامة وعرض علي أن نخرج فـورا ولا أخفي أنه انسان لطيف جدا وصاحب نكتة لا يتمالك المرء أمامها سوى القهقهة، وكانت نكتته أو حجته هذه المرة أن ليس "عندي من الدم الكثير حتى  أسخى به"! ومع ذلك فقـد تبرع الزملاء بدمائهم بكل صدق واخلاص.          
كانت أول مدينة نزورها هي بيت لحـم حيث وقفنا على كنيسة المهـد التي فتح رعاتها أبوابها أمامنا فوجدناها في طور الترميم، وما يهـم هنا هـو أننا نزور احدى اقدم دور العبادة لدى العالم المسيحي قاطبة، كان من مميزات البناء كونه يحوي فتحة ضيقـة تؤدي الى مغارة الميلاد وبهذه المغارة توجد النجمة الفضية الموجودة في المذود المزّيَن بالمرمر وقد كتب عليها باللاتينية :" Hic de Virgine Maria Jesus Christus natus est والذي معناه بالعربية : هنا ولد المسيح يسوع من العذراء مريم." لقد كانت لحظة فارقة في حياة زملاءنا الأقباط والمسيحيون وهـم يقفـون على البقـعة التي ولد بها المسيح، فهذا السرور والحماسة يتملك ماجدة النمري من الأردن حيـن استعراض الدليل لكهف الميلاد فهنا توجد مغارة الميلاد التي يعتقد أن السيد المسيح عيسى بن مريم قد ولد بها وعلى بعد أمتار قليلـة منها يوجد مخدع مشذب ومزركش.. إنه المهـد المباركـ.
وبالرغـم من أن زملاءنا المسيحيون –جميعهم- لم يفوتوا الفرصـة للبدء بطقوسهم داخـل المكان المباركـ متحسسين الحائط وهـم في حالة ذهول، فإنني لا أنكـر أنـني لم أتمـالك نفسـي حيث دلفت بـدوري الى مخدع المهـد دون غيري من المسلمين الذين وقفوا يتفرجـون وكيف لا أفعلها وأنا أتواجد في بقعة تعتقد خمسة عشرة طائفة مسيحية جازمـة انها الكهف الذي ولـد فيه عيسى بن مريم رضي الله عنه وفي هذا النبي الكريم يقول تعالى  (( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )).
فـي اليـوم السابق والذي يـوافق حسب تقويمي الـ12 يونيه من العام 2014 كان قـد تعرض  ثلاثة مستوطنين للإختفاء فيما عرفت هذه العملية في الإعلام الفلسطيني بـ"عمليـة الخليل" وفيما بعـد عثر الجيش الاسرائيلي على الشبان الثلاثـة  قتــلى بالقرب من بلدة حلحول، وسط هذه الأجواء كان مبرمجا أن يمسي الوفد في الخليل لأجل زيارة المحافظ قبل أداء صلاة العصـر  داخـل المسجد الإبراهيمي وكنا على اطلاع على الاجراءات الأمنية المُستحدثـة من قبل سلطات الاحتلال وحيث نرى الجنود الاسرائيليين وأصابعهم على الزناد تأبها لأي إخطار، صادق أو محتمل فهؤلاء لا يترددون عندما يهمون بإطلاق النار وكأنهم مدربون لسحل الفلسطينيون كحشرات لا كبشر.
كان يتوجب علينا اجتياز  العــوائق العديدة والحواجز العسكرية التي يمكن للاسرائيليين التحكم فيها آليا حيث شيدت وسط ممر حلزوني يخترق بدوره قلب ســـوق المدينة العتيقة…! كانت الحوانيت التي نمر بها بمثابة الشاهد على هجران الســوق تماما وهو ما أجبر التجار عليه بعدما أقيمت مستوطنة بجانب السـوق، ومـع ازهار النشاط الإستيطانـي في هذه الناحية من مدينة الخليل  صار لزاما على ساكنة  البيوتات العربية اتخاذ اجراءت جديدة يقتضيها الوضع المُسْتجَدْ كاحكام إغلاق أبواب المنازل والاستعاضة عنها في مهام الدخول والخروج بالنوافذ الخلفية للمنازل وكنت أرى بأم عيني إحدى السيدات تدخل بيتها عبر سلم خشبي يوصل لكوة البيت.  
وهكذا، وجدنا أنفسنا في مدينة الخليل التي تتــعرض منذ الأمس لحصار خانق فرضه الجيش الاسرائيلي فالأهالـي متهمون بالمشاركة في العملية و باخفاء الشبان المختطفين، كان البعض منا  يعتمر العلم الفلسطيني بينما كنت من الفئة التي لفته ككوفية فلسطينية حول الرقبة وكنا حذرين بما يكفي دون جزع أو خوف، فالمكان جد رهيب و اصدقاؤنا في السلطة الفلسطينية انتهـت سلطتهم عند جلسـة التعارف التي انعقدت في مبنى محافظة الخليل.
كنت من الأوائل الذين وصلوا  البوابات الالكترونية حيث كان بإمكاني مشاهدة الزاوية الأقرب من المسجد الإبراهيمي مباشـرة، وهكذا وجدتي في مواجهة مجند و مجندة اسرائيلية يطالباني بالباسبور وبنزع العلـم الفلسطيني أو لا دخـول؟ في نفس اللحظة صرخ في وجه الجنود الاسرائليون أحد الزملاء "فلسطين حرة.. ونموت ..نموت دون هذا االعلم"، وهتف آخر "ندخل..ندخل والعلم بأيدينا يا صهيون"، ثم جاء دوري "أعد ألي باسبورتي فلا أريد الدخول"، وهكذا  رفضت العرض الإسرائيلي كما رفضـه بقية أعضاء الوفـد، الواحـد إثر الآخر ولم تكــن هنالك فرصة للمساوة أحرى شًدْ لًخْبًارْ..!
كان علينا العودة إلـى رام الله سريعا بعدما سرت اشاعـة تفيد بأن الحواجز بين المدن يجـري التمهيد لإغلاقها بشكل كلـي ابتداء من الساعة السابعة مساء مما سيجعل المدن الفلسطينية معزولة عن بعضها البعض ويجعلنا نعلق في الخليل.
في النهاية عادت الوفـود الى رام الله  وفـي الفندق أبلغنا أن السلطات الفلسطينية ستمكننا فجر الغـد من أداء صـلاة الفجـر بالمسجــد الأقصـى مما يعني أننا سنتمكن من زيارة القـدس ومعالمها، وتحدث الـي أحدهم بشأن الأجراءات الاسرائيلية طيلة الطريـق، لكنني كنت أعرف بشكل معين بوجود تنسيق أمني بشأن هذه الزيارة فليس بالإمكان حصولها دون ذلك، ومع ذلك فلــم نكن نهتــم سوى بكوننا سنتمكن من زيارة مسرى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وثاني الحرمين الشريفين حيث سنعلن البـيان الختامي لدورة القدس من داخل باحـة المسجد الأقصى.!؟      
يتبع في حلقة ثانية واخيرة

تصفح أيضا...